ماجد الماجد Profile picture
أعشق الحكايا ومغرم بالقصص تلك التي أقرأها في صفحات الكتب، عيون الناس، وذاكرة الأجداد في المفضلة كثير منها .. اقدم وأكتب مناكب @mnakbshow

Jan 29, 2022, 29 tweets

في صيف 1992 أقدمت الميليشيات الصربية المحاصرة للعاصمة سراييفو على قصف إحدى البنايات التي تتوسط المدينة؛ بناية لم تعرف بدايةً ماهيتها، القصف كان مركزًا ومتواليًا ومختلفًا؛ فالقنابل المستخدمة فيه كانت حارقة؛ حتى أنها أضاءت سماء سراييفو، ما هو المبنى وماحيثيات الأمر؟

#حياكم_تحت

لم يكن مبنى عاديًا على الإطلاق؛ كان مكتبة البوسنة والهرسك الوطنية؛ لكن السؤال لماذا تُقدم الميليشيات الصربية على استهداف هذا المبنى بالذات دون ما حوله؟ لماذا كان القصف حارقًا ومصرًا على الإتيان على المبنى بكل ما يحتويه؟ ولنجيب على هذا السؤال؛ يجب أن نعود بالتاريخ!

في قديم الأزل ومع بدايات تلمس الإنسان لمفهوم الدولة؛ صار عصيًا عليه أن يختزن كل المعاملات في ذاكرته؛ لذلك كان تفكيره منصبًا في اتجاه إيجاد ذاكرة إضافية تعينه على تنظيم شؤونه وشؤون من حوله وحفظ حقوقهم؛ ومع كثرة المحاولات اهتدى أخيرًا لأهم اختراع في تاريخ البشرية؛ ألا وهو الكتابة.

تطورت الكتابة من النقش على ألواح طينية لدى السومريين إلى كتابة على أوراق البردي لدى المصريين القدماء؛ ثم توالت التحديثات والابتكارات؛ وبجانب ذلك أصبح الكتاب وعاء لما هو أكثر من المعاملات؛ حيث صار وعاء للخبرات والأسرار والآداب والعلوم بكافة مناحيها، من هنا برز خطره وأهميته.

مع ندرة الأدوات وصعوبة الكتابة على مدار التاريخ، كانت الكتب ذات قيمة لا تضاهى؛ فأنت بها تمتلك زمام أمرك، وتمسك بجميع خبرات شعبك بين يديك، خبرات وأفكار تمكنك من الخطو للأمام على أرض راسخة، ومن ثم كان استهدافها من قبل أعدائك مطلبًا أساسيًا في كل حرب تخوضها.

فيما قبل الميلاد بثلاثة قرون تقريبًا ولدت مكتبة الإسكندرية أو المكتبة الملكية؛ وهي أول مكتبة عامة في التاريخ، وضع الإسكندر الأكبر أساسها؛ واستكملها من بعده بطليموس الأول والثاني، ضمت بين أروقتها أكثر من 700 ألف مخطوطة ومجلد؛ في شتى مناحي العلم.

قصدها للتعلم والقراءة غير واحد من علماء اليونان؛ مثل إقليدس وأرخميدس بالإضافة إلي إيروثيوس ويعرف بأنه أول من قام بحساب قطر الأرض، وغير هؤلاء الكثير، ظلت المكتبة منارة ثقافية هادية تجتذب إليها العلماء من كل حدب وصوب، لكن في لحظة قاتمة من التاريخ ضاع كل شيء.

ففي عام 48 ق.م وبينما يوليوس قيصر محاصر من قبل بطليموس الصغير شقيق كليوباترا بسبب محاباة يوليوس لأخته عليه، حينها اتخذ يوليوس قررًا خطيرًا بحرق 101 سفينة موجودة على شاطئ البحر المتوسط قبالة المكتبة؛ لم تكتفِ النيران بالسفن بل امتدت لتأتي على المكتبة بكامل محتواها.

النيران تشتبك بدرة مكتبات العالم حينذاك، تتساقط ألواحها وتحترق مجلداتها وكتبها البالغة نحو 700 ألف على أقل تقدير، خسارة إنسانية فادحة، يسقط معها العالم وتتأرجح بوصلته، ويتناثر هباء في جو الظلام والكراهية فكر ونظريات وتاريخ وعلوم، خطت بدأب ومعاناة وعلى مدى سنين طويلة.

بعد هذا الحريق وجد الكتاب ذاته ضائعًا بلا رفوف تحتويه، وكان عليه أن ينتظر إلى عام 170هـ وهو العام الذي أمر فيه هارون الرشيد باستحداث مكتبة عامة ضخمة في بغداد مفتوحة أمام الجميع، وقد أسماها بيت الحكمة، وكان نواتها هي تلك الكتب التي جمعها جده المنصور من كل أقطار دولته المترامية.

يشهد المؤرخون ذلك التلاقي العلمي الراقي الذي جمعته دار الحكمة بين جدرانها على أساس التآخي الإنساني، فهذا يوحنا بن ماسويه المسيحي مترجمًا للعلوم الطبية ومطورًا لطرائق التشريح، وهذا الخوارزمي الأعجمي يجوب برياضياته عوالم شتى، وهذا الأصمعي يؤرخ ويقعد للغة.

بلغ بيت الحكمة في عصر المأمون أوج ازدهاره، حيث صار مركزًا عالميًا إنسانيًا للعلوم والحضارة، وأثمر عن عدد غير قليل من الإنجازات والاختراعات، منها قياس محيط الأرض، وصناعة الورق، وإنتاج العدسات والمرايا، واختراع الأسطرلاب، واستحداث علم الجبر والمقابلة وغير ذلك الكثير.

في القرن السابع الهجري، كانت مكتبة بيت الحكمة تغص بمئات آلاف الكتب، ويدور في فلكها مئات العلماء، لكن بعد التاسع من صفر 656هـ تحديدًا في ولاية المستعصم لدين الله تغير كل شيء، حيث اجتاح المغول بغداد، وانسال جنودها في الشوارع يحرقون ويدمرون كل ما تطالهم أيديهم.

كان هجومهم وحشيا، لدرجة أن سكان بغداد كادوا يحفرون الأرض ليختبؤون، فـ "دخل كَثِير مِنَ الناس فِي الْآبَارِ وَأَمَاكِن الحشوش، وَكَمَنُوا كَذَلِك اياما لَا يظهرون" خشية الفتك بهم، لم يفت هولاكو أن يولي وجهه صوب بيت الحكمة الممتلئ عن آخره حينذاك بنوادر الكتب وتحفها في شتى المجالات.

كان الحرق نصيب تلك الصحائف والكتب التي تجاوز عددها الملايين، حيث أضرم الجنود نيرانهم في ميراث معرفة طويل بني على مدار قرون، الدخان يتصاعد إلى السماء ومعه تشهق الدولة العباسية نفسها الأخير، كان يومًا أسودًا إلى تلك الدرجة التي ظن فيها البعض موات الإسلام ذاته كدين دون رجعة.

و ما لم تطله النيران بالحرق، طالته أيدي جنود المغول بالإتلاف والإلقاء في نهر دجلة، ولكثرة ما ألقي فيه تغير لون النهر إلى لون آخر قاتم يشبه أحبار تلك الكتب، ليتضاءل مجموع ما وصلنا من كتب الأقدمين بعد هذا اليوم!

يحلق دخان الكتب في السماء، فيهطل بعد زمن في أرض جديدة، إنه هنا هذه المرة في قلب أوروبا القرن العشرين وقد بلغت هذه القارة مبلغًا لا يضاهى من العلم والإنجازات، لكن الإنسان أقل إرادة من أن يجابه عدائيته وجهله المقيتين، إذ يحمله التعصب أن يجثو بقدميه على كل شريف مقدس إن لزم الأمر.

ففي ذروة الكساد العظيم الذي اجتاح اقتصادات العالم بداية من عام 1929، ألمانيا حينذاك غارقة في الديون، وصيحات أدولف هتلر المستشار الجديد للدولة تتعالى واعدة الجماهير بدولة جديدة كليًا، يسود فيها العرق الأري الألماني على كل ما سواه من الأعراق الأخرى.

شعارات القومية والشيفونية تطغى على كل ما سواها، رفض الآخر والنظر بدونية لكل من ليس ألمانيا أمر أصبح واقعًا يلتف حوله كثيرون، في حين يقع الشباب في مقدمة المتحمسين لكل هذه الأفكار والترويج لها، لذلك لم يكن مستغربًا أن يتطرف فكرهم ليصيب أشياء غير متوقعة.

قبل يوم 10 مايو من العام 1933، قام اتحاد الطلبة الألماني بدعم من الحزب النازي بتكثيف جهوده من أجل محاربة الأفكار غير النازية مثل الليبرالية والماركسية، ليس على ساحة المدافع والحرب، وإنما على ساحة الفكر والأوراق والكتب.

لم يختر الشباب مواجهة الفكر بالفكر، بل قاموا بتدشين حملات مكبرة طافوا خلالها على جميع المكتبات العامة، وبمساعدة الشرطة استخرجوا كل الكتب غير الألمانية خصوصًا تلك التي تحمل أفكارا مصادمة للفكر النازي، ثم حزموا أمرهم على تجميعها في مدنهم الجامعية.

كانت العاصمة برلين صاحبة القدر الأكبر من الكتب المصادرة، حيث انتهى الشباب إلى جمع آلاف الكتب ووضعوها في شكل هرمي وسط أحد الميادين العامة، وعبر الراديو وجهوا دعوة للجماهير بالحضور، ليجتمع أكثر من 70 ألف شخص في انتظار الإحراق.

عند منتصف ليل برلين وصل جوزيف جوبيلز وزير الدعاية النازي، والذي بالمناسبة كان أستاذًا جامعيًا، حيث وجد طريقه نحو منصة أعدت له، ثم بدأ بإلقاء كلمته، والتي كانت كبقية خطب النازيين مليئة بالكراهية والحماس، أعلن فيها نهاية حقبة تواجد اليهود بأوروبا وبداية حقبة الثورة والفكر الجديد.

من بعده تولى المذياع زعيم الطلاب النازي والذي لم يتجاوز عمره حينها الثلاث وعشرين عامًا، حيث خطب في الجموع وعبر عن فخره بجهود زملاؤه الرامية للتصدي للروح غير الألمانية، ثم اقترب حاملًا أول كتاب وأشعل فيه النار وألقاه لتبدأ النيران في التهام آلاف الكتب.

احتوت الكتب التي تم حرقها على تصنيفات عديدة أهمها تلك الكتب التي تدعو للسلام والتصالح مع الآخر، كما تضمنت كتبًا فكرية وأدبية غير ألمانية، كما تضمنت نسخا نادرة ومخطوطات فقدت للأبد، تم مصادرة هذه الكتب تحت أعين إدارات المكتبات دون قدرة لها على الاعتراض.

أرجوكم احرقوا كتبي، هكذا طالب أوسكار ماريا جراف بذلك الأمر، حيث لم تصادر كتبه بل كان النازيون يوصون بقراءة مؤلفاته، وكتب يقول "أنا لا أستحق هذا العار!، فأنا أستحق أن تطهر كتبي في النيران الطاهرة على أن تقع في الأيدي الملوثة بالدماء"

كان الشاعر الألماني هاينريش هاينه أيضًا من ضمن الكتاب الذين حرقت كتبهم، وللمصادفة كان هذا الرجل قد كتب في إحدى مؤلفاته قبل أكثر من 100 عام جملة حاسمة يقول فيها :"أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضا"، وهو ما حدث بالفعل خلال سنوات قليلة من هذا الحريق.

مُثِّل حرق الكتب في التاريخ البشري بحوادث أكثر من أن تحصى، ومعها غابت شمس كثير من المؤلفات والتاريخ والأفكار والنظريات شديدة الأهمية التي توصل إليها المفكرون والعلماء قديما، فبكل جزم ما وصلنا من كتب وجهود الأقدمين، أقل بكثير مما ذهب أدراج الرياح في تلك الحرائق مترامية العدد.

كانت الكتب وستظل معراجا لابد منه لكل من يريد بناء حضارته، لكل من يريد الارتقاء بعيدا في سماوات الحلم، وحين يحرقها الأعداء فتلك هزة نفسية كبيرة لا يكافئها شيء، يمكن أن تمضي بصاحبها إلى نهايته المحتومة دون هوادة!
تتوقع هل كان سيتغير العلم والتاريخ لولا تلك المحارق؟!

Share this Scrolly Tale with your friends.

A Scrolly Tale is a new way to read Twitter threads with a more visually immersive experience.
Discover more beautiful Scrolly Tales like this.

Keep scrolling