برنامج رمضاني أثير، يقدمه وجه نوراني اعتدنا حضوره على موائد إفطارنا لأكثر من ٢٥ عاما، لا نرى صورة له إلا ويتجدد فينا حنين طاغ لمعاهد الطفولة والشباب، ذلك الناصح الأمين القاضي اديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي
حياكم تحت ❤️
بينما تتهادى القافلة مقتربة من دمشق، يهيم العالم الأزهري محمد بن مصطفى سابحا في ذكرياته وحياته السابقة وبلده طنطا بمصر التي تركها مختارا، ورغم غمامات الشجن التي تظلله، لا يزال الأمل يحدوه هو وابن أخيه في تجربة جديدة ثرية، يتلاقيا فيها مع نفع الناس ونشر علوم الدين والدنيا.
لم يمض كثير وقت حتى حل الشيخ الأزهري في ساحات الجامع الأموي، يتحلق من حوله الطلاب ينهلون من علوم اللغة والطبيعة والفلك التي اجتمعت له، حتى صار من الأعلام المبرزين، أما ابن أخيه أحمد الذي رافقه في رحلته، فقد تزوج من ابنته، واجتمعوا جميعهم في دارة عرفت باسم عائلتهم.
توفي الشيخ محمد الطنطاوي عام 1888م مُخلّفا وراءه سيرة عطرة وحضور علمي مشهود، وخلَفَه في علمه بعد أمد، ابن ابنته -من ابن أخيه الذي رافقه- مصطفى الطنطاوي، والذي انتهت إليه ذات يوم أمانة الفتوى في دمشق، فكان من فقهاء دمشق المعدودين، ومن أكابر علمائها المشهود لهم.
ضِمن مجلسه العلمي، كان طفل صغير يلازمه، إنه ابنه الأكبر علي، والذي لم يكن ليفوت مجلسًا لأبيه، يجلس بين المشايخ الكبار، لا يكاد يفهم حديثهم، لكن الوقت كان كفيلًا بصقل معرفته بالأشياء، فحفظ ألفية بن مالك وألم بعلوم اللغة والبلاغة في سن مبكرة، واستطرد في التلقي والتعلم حتى استوى.
لكنه بموازة تردده وتلقيه العلم على يد المشايخ في الجامع الأموي، انتظم كذلك في الذهاب إلى المدرسة، فجمع الفضل كله، بين تلقٍ تقليدي متأصل، وبين نظم تعليمية حديثة، اجتاز الفتى الابتدائية وما تلاها، حتى استقر به الحال عام 1923 في ثانوية "مكتب عنبر" وهي الثانوية الوحيدة حينذاك في دمشق
لا تسير الأمور دائمًا كما يتمنى المرء، إذ قاطع الفتى الصغير حدث جلل هز أركانه وبدل أولوياته وتركه خائرًا لا سند له، لقد مات أبيه، وصار ابن السادسة عشر عامًا مسؤولًا عن أمه وإخوته الأربعة بحكم كونه الأكبر، عانى صروف الحياة فترك مدرسته ومضى يعمل أجيرًا يحمل البضائع بين الدكاكين.
رأف بحاله المقربون؛ فجمعوا له من المال ما يعينه على أن يكون له دكانه الخاص، وبالفعل خاض الفتى الصغير غمار الأمر، لكنه لم يستشعر للحظة أنه في مكانه الصحيح، لذلك لم يستمر به الحال هكذا كثيرًا، فعاد أدراجه مرة أخرى إلى مدرسته وانتظم في مكانه الذي لطالما استشعره وأحبه.
بعد حصوله على البكالوريا عام 1928، وصلته رسالة من خاله محب الدين الخطيب الذي يقطن القاهرة، وجه إليه دعوة من أجل إكمال دراسته هناك، قبلها علي وكله سعادة، فانطلق إلى القاهرة، وهي حينذاك نابضة بالعلم والفن والحماسة، فانضم إلى دار العلوم كأول شامي ينتظم في الدراسة العليا في مصر.
في مصر عرف الفتى حياة جديدة لم يعهدها، فعرف طريقه إلى لجان الطلاب وحراكهم ضد المستعمر، وانضم إلى فريق التمثيل الجامعي، ومكنه خاله من العمل الصحفي، فقوي قلمه وشفت لغته وتمكنت الفصاحة من ذاته، حتى نشر أولى مقالاته في جريدة المقتبس وهو لا يزال في السابعة عشر من عمره.
بعد عام ونصف، وعلى الرغم من توقده وانفتاحه على كثير من الأنشطة والاكتشافات، إلا أن حنينه إلى دمشق حمله إليها مرة أخرى، فانقطعت رحلته التعليمية القاهرية مبكرا، وعاد إلى جبل قاسيون مرتميا في كنفه، فدرس القانون في جامعة دمشق حاصلا على ليسانس الحقوق عام 1933.
في تلك الأثناء كانت دمشق تئن تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، وتأثرًا بما رافقه من تنظيمات طلابية في القاهرة؛ أنشأ علي اللجنة العليا لطلاب سوريا، والتي لعبت دورًا فعالا في النضال ضد المستعمر وأعوانه، من خلال المظاهرات والإضرابات، بل واستطاعت بجهودها إبطال انتخابات عام 1931 المزورة.
لم يكن الحال ليسمح لعلي أن ينقطع للدراسة والجامعة بشكل تام، فمن خلفه أمه وإخوته وهو من يعولهم، لذلك بجوار دراسته عمل معلمًا وهو لا يزال في سن صغير، كما عمل صحفيًا في جريدة الأيام السورية، وبرزت مقالاته ملتهبة تملأها الحماسة والرصانة، وبدا في ثوب قشيب من التميز والتفرد.
مرة أخرى كان للطنطاوي موعد مع الحزن، ففي ذروة نشاطه وانقطاعه للتعلم والعمل والنضال؛ كانت الصدمة الأكبر في حياته، حين ماتت أمه وتركته يرعى إخوته وحيدا ، لفه الحزن ولم يعد من تلك اللحظة كما كان، دلف إلى إخوته محتضنًا ومهتمًا، وعلى طول سيره بجوارهم كان لهم أبًا وأخًا وكل شيء.
بعد تخرجه من الجامعه لم يكن عمله كمعلم والذي ابتدأه منذ كان في الثانوية؛ إلا طوق نجاة له، خصوصًا بعد إغلاق جريدة الأيام التي وصل كمدير لتحريرها، فملأ عليه التدريس جميع وقته وأصبح مصدر رزق أساسي له، لكنه واجه سيلا من المشكلات بسبب مواقفه الوطنية والنضالية.
فعلى سبيل العقاب والإرهاق ظلت السلطات تنقله من مدرسة ابتدائية إلى أخرى، حتى طوف سوريا بكاملها من أطراف جبل الشيخ جنوباً إلى دير الزور في أقصى الشَّمال والشرق، لكن ذلك لم يصرفه عن التعليم ولم يصرفه كذلك عن الصدوح بالحق في وجه الاستعمار، لكن لكل موقف ثمنه.
أملا في تحسين مقدرته المالية التي لم تكن تعينه حينها على الزواج، سافر الطنطاوي إلى العراق حيث عمل معلما في مدارسها، وتنقل بين بلدانها ثلاث سنوات، وصارت أحب البلاد إليه بعد دمشق، وفي الأخير نجح في إتمام زواجه من عائدة الخطيب، والتي رزق منها بخمس بنات، كن له قرة عينه، ومبلغ حبه.
لما عاد إلى سوريا مُنِع الرجل من التدريس نهائيا، لكن الله فتح له باب رزق ومكانة أشد اتساعًا ونفعا، إذ انضم إلى سلك القضاء، قاضيًا في النبك بدوما، ثم تدرج في المناصب على مدى 25 عامًا، حتى أصبح مستشاراً لمحكمة النقض في الشام ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوَحدة مع مصر.
وعلى مدى تلك الفترة لم ينقطع الرجل يومًا عن الخطابة والعظة وفتوى الناس، كان مفوها صادقًا بشكل ذا حُجة، أمور جعلته يخترق قلوب الجميع ويسكن فيها، لذا لا استغراب أبدًا حين تفد على خطبه جموع مؤلفة من الناس، جموع لا تجد لذاتها موضعًا لسجود، إلا على أظهر بعضها البعض.
تلك الصفات لم تتفق مع النظام البعثي الجديد حينها في سوريا، لذلك تعرض الرجل لمضايقات كثيرة، أودت به إلى التفكير مليًا في الخروج مغادرة البلاد، وهو ما توافق مع دعوة من محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي السعودية حينذاك للتدريس في مكة، وهو ما وافق عليه الطنطاوي على الفور.
انتقل الرجل للتدريس في كلية الشريعة في مكة عام 1964 وكان قد قضى قبلها عاما في كلية اللغة العربية والشريعة في الرياض، ولموفور جهده وعلمه اختير لتنفيذ برنامج للتوعية الإسلامية، فراح يطوف أرجاء المملكة على المدارس قبل الجامعات، ملقيًا فيضًا من دروسه الدينية ومحاضراته التأسيسية.
في يوم من الأيام حل الطنطاوي ضيفًا على برنامج ديني مصري شهير يعرف بـ نور على نور، سجلت الحلقة في التلفزيون السعودي ضمن اتفاقية تعاون، أبدع الرجل وظهر حضوره الطاغي وملكاته وتمكنه الفقهي الشديد، حينها تساءل مسؤولي التلفزيون السعودي لماذا لا نخصص له برنامجًا؟! وهو ما قد كان
هنا كان ميلاد برنامجه التلفزيوني نور وهداية الذي كان يبث كل جمعة، من أطول البرامج عمرا في تاريخ التلفزيون السعودي، والذي وجد فيه الطنطاوي فرصةً قيمة لتحرير علمه وإفادة أكبر قدر من الناس، وقد لامس هذا البرنامج وغيره قلوب السعوديين، حتى بات جزءًا منهم ومن ذاكرتهم العتيدة.
دفع النجاح الكبير الذي حققه هذا البرنامج المسؤولين إلى إصدار نسخة رمضانية منه، تحت مسمى "على مائدة الإفطار"، تخيل أن يحل الطنطاوي على مائدة إفطارك يوميا لخمس وعشرين سنة، يحل عليك بعلمه وصدقه العميق واستطراده وتأملاته المحببة؛ إنه حقًا لقدر جميل لتلك الأجيال التي عاصرته.
لم يكن علي مريدًا للشهرة أو الأضواء، بل كان في عيون كل من عرفه متواضعًا خلوقًا صبورًا إلى أقصى حد، لم تلهه البرامج عن لقاء الناس، بل وهبهم جل وقته، فلم يكن يخلو بيته من زائر أو طالب علم، فيما مجلسه بعد العصر في الحرم لم ينقطع يومًا، يؤدي كل هذا بحب وصدق وبابتسامة لا تفارق محياه.
تلك التأملات وهذه القدرة على الإفتاء لم تتوفر للطنطاوي جزافًا، بل أتت عبر دربة وأساس علمي متين، رفقة سنوات طوال قضاها قاضيا في المحاكم الشرعية، بجانب أنه لم ينقطع يوما عن القراءة، بمتوسط قراءة بلغ 350 صفحة، لذلك لم يُستغرب أبدًا إلمامه المعرفي الغزير المتشعب.
بجانب كل هذا بل ربما على رأسه، كان الطنطاوي ذا قلم أدبي بليغ فصيح، ينثر عبره أفكاره وتأملاته في ترتيب منطقي يفي بما يتمناه من إقناع وزيادة، استطاع عبره المرور ولا يزال إلى قلوب الملايين.
كان يرحمه الله غزير الإنتاج، إذ جاوزت مؤلفاته حاجز ٢٥ مؤلف، جاء أكثرها في صورة تأملية من منطلق إسلامي، مثل كتاب من حديث النفس ومن نفحات الحرم، أما كتابه الذكريات فقد جاوز ٣٠٠٠ صفحة، هذا فضلا عما نشر له من مقالات صحفية على مدى ثلاثة أرباع القرن.
كان يرحمه الله وسطيًا معتدلًا يفتي على المذاهب الأربعة، ييسر على الناس ويضعهم بلطف أمام ما يراه من صواب، مهمومًا على الدوام بقضايا أمته الإسلامية، عشق المملكة وأعطاها من حياته 35 عامًا، صار فيها في قلوب الجميع، وصار ثراها محتضنًا له في الأخير.
حين بلغ الثمانين، لم يقو على ما كان يأتي به من قبل من جهد وعمل، فآثر العزلة وأغلق عليه بابه إلا من بعض الزيارات ومجالس الأصدقاء، وتفرغ للعبادة والقراءة التي لم ينقطع عنها يومًا، وفي 1990 منح جائزة الملك فيصل العالمية تقديرًا لجهوده في خدمة الدعوة، كما منح الجنسية السعودية.
مع تقدمه في العمر أكثر ورغم حضوره الذهني القوي، تورع عن الفتوى واعتذر من سائليه مخافة الزلل أو النسيان، وفي عام 1999 توفي يرحمه الله في جدة، وبكاه الجميع، ونقل إلى مكة مهوى فؤاده، حيث صلي عليه في الحرم، ثم ووري الثرى الطاهر لتلك المدينة المكرمة.
ختاما :
اخبروني عن ذكرياتكم مع الطنطاوي وبرامجه 🌹❤️
Share this Scrolly Tale with your friends.
A Scrolly Tale is a new way to read Twitter threads with a more visually immersive experience.
Discover more beautiful Scrolly Tales like this.