في هذا الثريد سنتناول حجة المؤمنين الكلاسيكية "برهان النظام" وسنجيب على الأسئلة التالية :
- هل يمكن للنظام الكوني أن ينشأ من العشوائية الطبيعية؟! (من دون الحاجة للإله أو القُوى الفوق طبيعية - الميتافيزيقية).
- ماهو جوهر الكون؟ هل هو النظام؟ أم الفوضى؟ أم كليهما؟!. #عقلانيون
تجذّر وساد مفهوم "النظام والفوضى" في عقلية الإنسان القديم كما نقرأ في أسطورة الخلق البابليّة أو ملحمة "Enuma Elish".
وتعتبر هذه الملحمة بجانب ملحمة "گلگامش" أحد أقدم الملاحم في العالم القديم، فقد كتبت في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، أي: قبل 1500 سنة من كتابة الياذة هوميروس.
وجدت الملحمة موزعة ومقسّمة على سبعة ألواح فخاريّة كبيرة، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك الآشوري آشور بانيبال ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتّى الموضوعات الدينية والأدبية والقانونيّة وغيرها.
ولأن الملحمة طويلة جداً فقد كتبت على سبعة ألواح فخاريّة ضخمة، والكلام هنا ليس خاصٌّ بها. لهذا سأحاول سردها باختصار وإيجاز شديد غير مخلّ بالتفاصيل الضرورية للحفاظ على التماسك المنطقي للأحداث، فقبل بداية الكون كانت هناك حالة من الهيولية والسكون والمياه الأولى، ممثلةً في ثلاثة آلهة.
تكملة : في ثلاثة آلهة : "آبسو" و "تعامة" و "ممو"، وكلٌّ منها له رمزيّته الأسطوريّة الخاصّة.
فالإله "آبسو" هو الماء العذب، وزوجته "تعامة" هي الماء المالح، أمّا "ممو" فهو الضباب المنتشر فوق تلك المياه والنّاشئ عنها، وهذه الآلهة الثلاثة كانت تعيش في حالة سرمدية من السكون المطلق.
تكملة : حالة سرمدية من السكون المطلق، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية لا تمايز فيها ولا تشكل.
ثم آخذت هذه الآلهة الثلاثة بالتناسل، فولد "آبسو" و"تعامة" إلهان جديدان هما "لخمو ولخامو" وهما بدورهما أنجبا "أنشار" و"كيشار"، وبعد عدة سنوات أنجب أنشار وكيشار الإله "آنو" إله السماء.
و"آنو" بدوره أنجب "إنكي" إله الحكمة، والذي صار فيما بعد إله المياه العذبة الباطنة، وقد تفوّق في القوّة والهيبة جعله يسود على آبائه.
وهكذا امتلئت أعماق الآلهة تعامة بآلهة جديدة مليئة بالحيوية والنشاط والحركة الدائبة المستمرّة، مِمّا أقلق السكون الأزلي للآلهة الأم.
وقد فشلت محاولات الآلهة الأم للسيطرة على الآلهة الجديدة لذلك قام الإله "آبسو" بوضع خطة لإبادة النسل الجديد الذي عكّر سكون الآلهة الأم الأبدي، وباشر بتنفيذ خطّته رغم من معارضة "تعامة" التي ما زالت تكنُّ ببعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات "آبسو" خاف الآلهة الشباب واضطّربوا، ولم يخلّصهم من حيرتهم سوى أشدّهم وأعقلهم الإله "إنكي" إله الحكمة.
وفيما بعد قام بصنع تعويذة سحرية وألقاها على "آبسو" بينما هو نائم، ونزع العمامة الملكية عن رأس "آبسو" ووضعها على رأسه رمزاً للسلطان الجديد.
تكملة : كما نزع عن "آبسو" اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه، ثم ذبحه وبنى فوقه مسكناً له.
وبعدها قضى على "ممو" حليف "آبسو" عبر سحقه وخرم أنفه بحبل يجرّه أينما ذهب، ومنذ ذلك الوقت صار "إنكي" إلهاً للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، وهو الذي يعطي الأنهار والبحيرات مياهها العذب.
وبعد هذه الأحداث الملحميّة، ولد "مردوخ" أعظم آلهة بابل، والذي أنقذهم من بطش الآلهة القديمة، ورفع نفسه سيداً للمجمع المقدّس.
كيف لا وهو ابن الإله "إنكي" الذي فاق أباه قوّة وحكمة وبطشاً، وكما كان الإنقاذ الأول على يد الأب "إنكي"، كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الإبن "مردوخ".
"تعامة" التي تركت زوجها "آبسو" يُذبح على يد الآلهة الشابّة دون أن تهرع لمساعدته، شعرت بالحزن والنّدم ووجدت نفسها مقتنعة بالسّير في نفس الطريق لأن الآلهة الشابّة لم تغيّر من سلوكها.
وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه أحد عشر نوعاً من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصيصاً للمعركة.
عندما التقى الجمعان، طلب "مردوخ" قتالاً منفرداً مع "تعامة"، فوافقت عليه ودخل الإثنان حالاً في صراعٍ وجوديٍّ مميت.
وبعد فاصل قصير نشر "مردوخ" شبكته ورماها فوق "تعامة" محمولة على الرياح، وعندما فتحت فمها لالتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية فانتفخت وامتنع عليها الحراك.
وهنا أطلق "مردوخ" سهماً من سهامه فتغلغل في أحشائها وشطر قلبها لنصفين، وعندما تهاوت وسقطت على الأرض أجهز عليها وقضى على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشه "كينغو" فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره، وقضى وأسر ما تبقّى من جيش تعامة وهزمهم شرّ هزيمة.
بعد هذا الإنتصار على قوى السكون والسّلب و "الفوضى" التفت مردوخ إلى بناء الكون و "تنظيمه" وإخراجه من حالته الهيوليّة الأولى إلى حالة "النظام" و "الترتيب" و "الحركة".
عاد "مردوخ" إلى جثّة "تعامة" وشقّها لنصفين، رفع النصف الأول فصار "سماء" وبسط الثاني فصار "أرضاً".
ثم التفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق، فخلق النجوم والشمس والقمر وحدد لهما مساريهما.
ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين "كينغو"، كما خلق الحيوان والنبات، ونظم الآلهة في فريقين، جعل الفريق الأول في السماء وهم "الأنانوكي" والثاني جعلهم في الأرض وما تحتهم وهم "الأيجيجي".
بعد الإنتهاء من عمليّة الخلق، يجتمع الإله "مردوخ" بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيداً للكون، وبنوا مدينة "بابل" ورفعوا له في وسطها معبداً تناطح ذروته السحاب، وأطلق عليه معبد "الإيزاجيلا"، وفي الإحتفال المهيب أعلنوا أسماء "مردوخ" الخمسين.
ومن الجدير بالذكر أنّ الديانة الكونية "cosmic religious" التي تحدّث عنها آينشتاين، تحدد موضوعاً أساسياً لها وهو البحث عن "النظام الكوني" وضرب مثالاً عليها بشخصيتي نيوتن وكبلر في مقالته المنشورة بعنوان (Religion and Science).
فهناك كائن إلهي يدعى الـ Démiurge، قاد نوعاً من المغما التي لا شكل لها، من الفوضى إلى الترتيب والنّظام لتوليد الكون الحالي.
واستطاع الـ Démiurge تحقيق النظام بإدخاله للأشكال وللتناسبات الهندسية والبنى الرياضية، إلا أن العمل الناتج، أي العالم خضع للصيرورة والزمن والحركة الدائمة.
كان الهدف الأساسي للعلم حتى فترة قريبة اكتشاف "النّظام" في الطبيعة، غير أنّ هناك حالة إنقلاب معياري وإعادة تقييم جذرية وشاملة تمسُّ العناصر الجوهرية لرؤيتنا الكونيّة.
بدأت حالة الإنقلاب المعياري منذُ إكتشاف "العشوائية" في الطبيعة كعنصر أساسي وجوهري بدل "النّظام الكوني المطلق".
والآن نأتي إلى السؤال الجوهري الذي طرحناه في البداية : هل يمكن للنظام أن ينشأ تلقائياً من العشوائية؟!.
بعبارة علمية أدق : هل يمكن علمياً أن ينشأ "النظام الكوني" تلقائياً وينظّم نفسه بنفسه "Self-Organize" ليصل إلى درجة عالية شديدة التعقيد ذاتياً من دون الحاجة لمسبب خارجي "إله"؟!.
على مدى آلاف السنين خضعت الظواهر الطبيعية لتفسيرات ميتافيزيقية، تنصّ على أن هناك قوى فوق طبيعية تتدخّل في قوانين الطبيعة لتنظيم الكون.
بالطبع تتعارض تلك التفسيرات الميتافيزيقية "الزائفة" مع التفسير العلمي عن كَون تحكمه مجموعة من القوانين الطبيعية أولها قانون حفظ الطاقة.
تكملة : والذي ينصّ على أن الطّاقة لا تفنى و لا تستحدث من عدم بل يمكن فقط تحويلها من صورة لأخرى.
فلا مجال إذاً لتدخّل قوة فوق طبيعية في قوانين الكون لضبطه وتنظيمه، لأن هذا التدخّل غير ممكن إلّا عبر إضافة طاقة جديدة أو إفنائها من مجمل الطاقة الكلية للكون وهذا مستحيل علمياً.
كذلك ينصّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أنّ الإنتروبي "Entropy" دائمًا في إزدياد مطّرد ضمن نظام مغلق. (الكون نظام مغلق).
يمكن تعريف الـ Entropy على أنّها "مقياس لدرجة عدم الإنتظام" بمعنى آخر مقياس "للعشوائية".
كما نقرأ هنا :
"a measure of the disorder of a system".
يمكن كذلك فهم الـ Entropy على أنها مقياس لدرجة الحرية "Degree Of Freedom" التي تمتلكها أجزاء نظام ما، وليكن الماء مثلاً ففي الحالة الصلبة "الجامدة" يمكن تحديد أماكن ذرات الماء بدقة في شبكة صلبة "إنتروبيا قليلة"، بينما في الحالة السائلة تمتلك درجة أعلى من الحرية "إنتروبيا أعلى".
تكملة : و في الحالة الغازية تمتلك جزيئات الماء درجة أكبر بكثير من الحرية، "إنتروبيا أعلى بكثير".
والآن سنأتي لمناقشة مفهوم التنظيم الذاتي "Self-Organize" فقد ظهر لأول مرة سنة 1947 على يد الإنجليزي ويليام روس آشبي، ثم وجد مكانًا جيدًا في النظرية العامة للأنظمة خلال الستينات.
وقد صاغ السيبرنطيقي الشهير هانز فون فورستر مصطلح "نظام من الفوضى" سنة 1960، لكنه لم يؤخذ بجدّية في المجتمع العلمي إلا عندما تبناه الفيزيائي الحاصل على نوبل سنة 1977 إيليا بريجوچين حينما قام بدراسة الديناميكا الحرارية للأنظمة البعيدة عن الاتزان "Systems far from equilibrium".
فقد قدّم رؤية جديدة تمامًا للقانون الثاني لها علاقة بتكون البنى التبددية "Dissipative Structures"، حيث يمكن لأي اضطراب لحظي طفيف في كيان نظام فيزيائي ما أن يتم تكبير أثره في نظام لاخطّي خلال حلقات من التغذية الرجعية "Feedback Loops" لخلق نمط جديد تلقائياً. link.springer.com/chapter/10.100…
وفي البداية لنحاول فهم ما يقصده بريجوچين، وسنقوم بتسخين إناء مملوء بالماء من الأسفل مع تبريده في نفس الوقت من الأعلى كما نلاحظ معاً في الصورة، ما الّذي سوف يحدث؟!.
كما نعرف جميعاً أن الماء الساخن أخف من الماء البارد، لذلك بعد فترة قصيرة من عملية التسخين سيرتفع الماء الساخن لأعلى، وفي نفس الوقت سينزل البارد من الأعلى إلى الأسفل.
لكن هذه العملية لا يمكن أن تتم في نفس الوقت، ولذلك ينظم الماء ذاته هنا Self-Organize عبر تنسيق لحظي بين أجزائه.
تكملة: عبر تنسيق لحظي بين أجزائه لصنع أشكال سداسية تسمى خلايا الحمل "Convection Cells" يمكنها أن تدير حركة الطاقة و المادة خلال التجربة.
هذه الحالة السابقة في التجربة مثال ونموذج للبنية التبددية "Dissipative Structure" في الأنظمة الحرارية البعيدة عن الإتزان.
التجربة السابقة توضح الفرق بين الإتزان الثيرموديناميكي Equilibrium" thermodynamics" وعدم الاتزان "Non-equilibrium thermodynamics". حيث تعمل كل من الحرارة و البرودة على إحداث اضطراب لحظي طفيف في الماء يتم تكبير أثره في نظام لاخطّي خلال حلقات من التغذية الراجعة ليتحول لنظام لاحقاً.
الماء هنا في حالة من عدم الاتزان الثرموديناميكي "Non-equilibrium thermodynamics". بينما يعود هذا النظام للإتزان مرةً أخرى و يفقد تلك البنى السداسية "Convection Cells" والتي كونها حينما نتركه تماماً، عند عدم وجود لأيّ نوعٍ من تبادل المادة والطّاقة مع البيئة المحيطة.
ما نستنتجه هو أن الأنظمة البعيدة عن الاتزان أكثر انفتاحًا وقابليّة لتبادل المادة و الطاقة مع الوسط المحيط وفيها تحدث عملية التنظيم الذاتي "Self-organize"، على عكس الأنظمة المتزنة أو القريبة من الإتزان والتي تعتبر أقل انفتاحًا وقابليّة لتبادل المادّة والطاقة مع الوسط المحيط.
وإذا انتقلنا إلى البيولوجيا، فإن الأمر الثابت لدى العلماء هو أن الأنظمة البيولوجية محكومة بآليات لاخطية (كما نقرأ في الصورة من أحد المصادر الأكاديمية Peer reviewed).
بمعنى آخر : يجب أن نتوقع سلوكاً عشوائياً بمقدار السلوك المنظّم في الأنظمة البيولوجية.
وأحد الأمثلة المدهشة على الـ dissipative structure - البنى التبددية التي شرحناها في الأعلى هو ما اكتشفه الكيميائي الروسي بيلوسوف أثناء دراساته لفهم الكيمياء الحيوية في دورة كريبس، فقد توصل بالصدفة لنوع معقّد من التفاعلات اللاخطية يغير فيها وسط التفاعل لونه بشكل دوري ومتكرر.
وقد كان ذلك مستحيلاً في الكيمياء، ولتوضيح الأمر فهو بمثابة خلط الحليب بالعصير وفي أثناء تقليبك بالملعقة يعود الحليب والعصير للإنفصال ثم الامتزاج ثم الإنفصال ثم الإمتزاج وهكذا بلا نهاية.
كرر بيلوسوف التجربة مراتٍ عديدة لضمان دقة التجربة وفي كل مرة كانت النتيجة نفسها لا تتغيّر.
جمع بيلوسوف تلك النتائج و قدم ورقة علمية حاول من خلالها نشر نتائج أبحاثه الجديدة، لكن كل محاولاته انتهت بالفشل فقد رفضت المجلات العلمية نشر تلك الورقة.
لأنها تناقض قانوناً طبيعياً أساسياً ألا وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية "تنزع الأنظمة للإتزان فقط، ولا تتأرجح حوله".
ولاحقاً حاول عالم الفيزياء الحيوية الروسي زابوتينسكي إعادة تفاعلات بيلوسوف من جديد لفهمها، و لتوضيح الأمر قام بإستبدال حمض السيتريك من تفاعل بيلوسوف بحمض المالويك والذي أظهر تأرجحًا أكثر وضوحًا للتفاعل خصوصاً عندما وضع مواد التفاعل على شكل طبقة رقيقة بسمك 1 مم تقريبًا.
لاحظ زابوتينسكي شيئًا مريباً وغامضاً، دوائر متحدة المركز تتكون بانتظام غريب و تتلاقى مع بعضها في نمط منظم وبشكل دوري، وفي كلّ مرة تتخذ نمطاً جديداً.
واستطاع زابوتينسكي أخيراً أن ينشر تلك الورقة العلمية عن تفاعلات تتأرجح حول الاتزان.
تبين لاحقاً أن تلك التفاعلات تتفق تماماً مع نتائج ورقة علمية للعبقري آلان تورينج سنة 1952 بعنوان "الأسس الكيميائية للتشكل الحيوي - The chemical basis of morphogenesis" يتنبأ فيها بإمكانية نشوء بُنى منتظمة ومعقدة تلقائياً عند تشكل الأجنة في المراحل الأولى. dna.caltech.edu/courses/cs191/…
واستغل بريجوجين تلك الدراسة و دمجها مع فكرته حول البنى التبددية dissipative" structure" التي تصنع تلقائياً نظاماً شديد التعقيد من خلال ديناميكا الأنظمة البعيدة عن الاتزان "Non-equilibrium thermodynamics".
تفاعل بيلوسوف - زابوتسينكي "Belousov-Zhabotinsky" (BZ) شأنه شأن باقي أنواع التفاعلات المتأرجحة Oscillating" Reactions" والتي يتم تسميتها بالساعة الكيميائية "Chemical clock".
وقد قال بريجوجين عن هذا الإكتشاف "بأنه أحد أعظم إكتشافات القرن، ويعتبر أهميته كإكتشاف الثقوب السوداء".
كذلك يعدّ هذا التفاعل أحد أشهر الأمثلة على التنظيم الذاتي "Self-organize" والذي يمكن أن يكوّن نظاماً شديد التعقيد تلقائياً ومن دون الحاجة لأي تدخّل خارجي "ميتافيزيقي" عبر التفاعلات المحلية "Local interactions" وذلك فقط لأن تلك التفاعلات التي تتخذ تلك البنى بعيدة عن الإتزان.
ومعظم الأنظمة في الطبيعة هي أنظمة بعيدة عن الإتزان، تتكرر فيها التفاعلات المتأرجحة، وتتغير بمرور الوقت بشكل دوري ومنتظم.
كما أنها تحافظ على حالة من عدم الإتّزان من خلال حركة دائمة للمادة والطاقة مع الزمن.
وأحد الأمثلة المدهشة أيضاً هو ما نشاهده من الـ Self-organize "التنظيم الذاتي" للمجالات الكهرومغناطيسية في مواجهة تدفق الغازات المتأيّنة كما نقرأ هنا في البحث المنشور في أرقى مجلّة علمية في العالم "Nature".
وللإستطراد أكثر في شرح مفهوم التنظيم الذاتي "Self-organize" وآلياته بشكل أكاديمي علمي بحت، سأقوم بشرح بحث علمي بعنوان : "What is Self-organization - ماهو التنظيم الذاتي؟".
وقد كتبته أحد أرقى وأعرق جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وهي جامعة برنستون (University Of Princeton).
وكما نقرأ في البحث :
Self-organization refers to a broad range of pattern-formation processes in both physical and biological systems.
يشير التنظيم الذاتي إلى نطاق واسع من عمليات تشكيل الأنماط في كلا النظم الفيزيائية والبيولوجية.
كما نقرأ في الصورة أن الصفة الأساسية لعمليات الـ Self-organization في الحصول على النظام من العشوائية هي عبر التفاعلات الداخلية للنظام من دون أي تدخّل خارجي.
بعبارة أخرى: يمكن أن ينشأ النظام من العشوائية المحضة عبر التفاعلات الداخلية وبدون أي تدخّل لمسبب خارجي "الإله".
نلاحظ في الصورة أحد الأمثلة المدهشة على التنظيم الذاتي في النظم البيولوجية وبالتحديد في تصبّغ جلد الأسماك والحمار الوحشي والزرافة بهذه الأنماط والتشكيلات المعقّدة تلقائياً.
أمثلة أخرى على التنظيم الذاتي
وفي هذه الورقة العلمية (Peer reviewed) والتي تحمل عنوان "The Self-organizing Universe-الكون المنظّم ذاتياً" يثبت أستاذ الفيزياء الفلكية الروماني R.MURDZEK بجامعة Al.I.Cuza على أن الكون يمكن أن ينظّم نفسه ذاتياً عبر آليات الـ FeedBack Loops في النظم الغير خطية البعيدة عن الإتزان.
ومن خلال تحليل شعاع الطيف القادم من الـaccretion disks توصّلنا إلى أنه يتم تكوين النجوم والمجرات عشوائياً عبر آليات التنظيم الذاتي والتي تحدث عبر حلقات الـFeedBack loops في الأنظمة الغير خطية البعيدة عن الإتزان (Non-equilibrium thermodynamics) كما نقرأ في الورقة العلمية.
وبدراسة توزيع المجرّات توصّلنا إلى أن عملية تشكّل الهياكل الكونية واسعة النطاق هي نتيجة أساسية للتنظيم الذاتي للكون.
والمرتبط بقانون Verhulst ذو البعدين two-parameter والذي يدرس نمو الظواهر غير الخطّية.
وبما أن نتيجة البحث تعتمد بشكل أساسي على تحليل الـ Fractal Dimension لتوزيع المجرات في مختلف الهياكل الكونية العملاقة، فلا بدّ لنا من وقفة مع هذه الفراكتالات لفهمها بشكلٍ علميٍّ سليم.
فهناك أنماط من الجواذب "الغريبة"، والتي تكون مرتبطة بسلوكٍ فوضوي لنظام ديناميكي ما.
ولا يمكن لهذه الجواذب "الغريبة" أن توجد إلا في فراغ مرحلة له أكثر من بعدين، وتكون ذات بنية هندسية متشابكة وتحتل منطقة محدّدة في فراغ المرحلة.
ومن الجدير بالذكر أن الفوضى الهندسية لمثل هذه الجواذب ليست كلية، إذ تبقى آثار النظام الرياضي المتضمَّن في المعادلات ماثلة فيها.
ولهذه الجواذب بنية هندسية منثنية وملتفّة حول نفسها بشكلٍ لا نهائي، أما جوهر هذه الجواذب الغريبة فهي عبارة عن فراكتالات "Fractals".
والفراكتالات هي عبارة عن بنية هندسية منثنية تحافظ على الشكّل نفسه مهما كانت التضخمات التي تحدث لها.
كانت الهندسة حتى وقتٍ قريب تُعتبَر جافة، كونها لا تستطيع التعامل مباشرة مع نماذج طبيعية كالجبال والأشجار.
بالرغم من ذلك هناك في الطبيعة ما يعتمد على تفاصيل دقيقة وهذا ما قاد ماندلبور Mandelbort عام 1975 إلى وضع هندسة جديدة تختلف اختلافاً جذرياً عن الهندسة الإقليدية التقليدية.
وأطلق عليها ماندلبور "هندسة الفراكتالات"، وتسمية Fractal مشتقة في الأصل من الجذر اللاتيني Franger الذي يعني "كسر" أو "شرخ"، ومن الصفة Fractus والتي تعني اللانظام والتكسّر.
أراد ماندلبور جمع هذين المعنيين في كلمة "Fractal"، وهكذا فإن هذا المعنى يشمل الشكل والعشوائية والبعد.
ولم يتوقع أحدٌ في البداية نتائج دراسة هذه الفراكتالات في تطبيقاتها الرياضية والفيزيائية والبيولوجية، بل وحتى الفلسفية، إذ أن هذه الفراكتالات لها أهمية كبيرة في دراسة الظاهرات العشوائية بشكلٍ خاص.
ونميز رياضياً بين أحجام هذه الفراكتالات التي تترواح في الكبر والصغر.
فإذا كان الفراكتال لا نهائي فإن حجمه الكلّي يكون لانهائياً من حيث الحجم، وإذا كان محدداً بكُرة طاولة فإن حجمه الكلّي يُحدّد بقطر كرة الطاولة.
وإذا لم يكن الفراكتال محدداً وكان يقطع مكعباً طول ضلعه "l"، فإن حجمه الكلّي بالنسبة للقطع يكون من رتبة الضلع"l".
وبحسب الحالة المدروسة، تشكّل هذه التفاصيل ألسنة أو خلجاناً أو أو جزراً، أو حتى أكداساً من النقاط.
بمعنى آخر : يرتبط مفهوم الفراكتال باللانظام وبالتجزئة معاً، وقد شملت نظرية الفراكتالات اليوم كافة النظريات الفيزيائية والشواذات أو حالات الخروج عن النظام.
تكملة: وأوجدت هندسة أشمل للعشوائية تبدو فيها حالات النّظام في الكون حالة شاذّة.
وتلعب هذه النظرية دوراً أساسياً في دراسة شكل الغيوم والجبال و"توزيع المجرات" في الكون والدوامات المبدِّدة في السوائل، وفي كل هذه الحالات لم تكن الدرجات المدروسة تتجاوز حداً أدنى موجباً إلى حد أقصى.
وفي حين لعبت الفراكتالات دوراً ناجحاً في العالم الماكروسكوبي، أدخلتها الفيزياء في دراسة الظاهرات الغريبة لتسد فراغاً كبيراً، حيث لم تكن هناك هندسة موافقة لهذا المجال.
وقد تم تعريف الفراكتالات المتناظرة فيزيائياً، أي: التي لا تتغير مع أي تغير طارئ.
تكملة: مما فتح باباً جديداً أمام العلماء، وبخاصة العاملين منهم في مجال الجسيمات الأولية.
كما أن هذه الفراكتالات تقدّم ميزة جوهرية لمفهوم "الفوضى المحددة"، ألا وهي "الحساسية تجاه الشروط البدئية".
فإذا انطلقنا في نظام منتظم الحركة من شروط ابتدائية متجاورة وتقع في الإطار الجاذب نفسه، فإن المسارات المتَّبعة في فضاء المرحلة ستنتهي بأن تتقارب إلى النقطة الثابتة نفسها أو نحو الدور المحدود، وستكون مختلف هذه المسارات متزامنة في الزمان بالنسبة لبعضها بعضاً.
وهكذا تتمايز المسارات بسرعة بالنسبة للأنظمة العشوائية وخلال وقت قريب نسبياً تبدو وكأن ليس هناك ما عاد يجمعها.
هذا إن استثنينا أنها في فضاء المرحلة تبقى في جوار الجاذب الغريب، إن هذه الحساسية تجاه الشروط البدئية تقلل من قيمة التحديدية التي يمكن وفقها التنبؤ بأية صيرورة أو تطور.
وحتى إن قبلنا أن القوانين الفيزيائية محددة، فإن حالات اللايقين التجريبية أننا لا نستطيع أبداً أن نعرف بدقة الحالة البدئية لنظام ما، فإذا كان النظام منتظماً تكون الانحرافات وحالات اللايقين بسيطة ويمكن حسابها، أما إذا كان عشوائياً فإنها تتسع مع الوقت بسرعة.
ومن البراهين التي نقضت السببية وأثبتت العشوائية كمبدأ أنطولوجي متأصّل في كوننا مبرهنة بيل "Bell's theorem" والتي تم إثباتها في عدة تجارب فيزيائية على مستوى ميكانيكا الكم وهي تعتمد المبادئ الرياضية التي صاغها الإيرلندي الشمالي جون ستيورات بيل في ورقته العلمية المنشورة عام 1964.
حيث برهن بيل رياضيًّا على أنّ بعض التشابكات الكمومية "Quantum Entanglement" لا يمكن أن تنشأ عن أي سبب، أي: أنه برهن على أنه لا توجد متغيرات (خفية) في العالم الكمومي يمكنها أن تصف كيفيّة تصرف هذه الجسيمات كما اقترح آينشتاين في ورقته التي نشرها مع پودلسكي وروزن عام 1935.
وهذا ليس لأننا لا نمتلك طريقة لمعرفتها كما هو الحال في الأمثلة عن العشوائية بل هي غير موجودة أساساً بعبارة أخرى : لقد انتفت السببية على مستوى الجسيمات الكمومية، وكل ما يمكننا معرفته عنها هو عشوائيتها.
نقرأ هنا أيضاً :
Bell's theorem is a fundamental result in quantum mechanics: it discriminates between quantum mechanics and all theories where probabilities in measurement results arise from the ignorance of pre-existing local properties. arxiv.org/abs/1212.5214
الترجمة : مبرهنة بيل نتيجة أساسية في ميكانيكا الكم بحيث يمكن تمييزها بين ميكانيكا الكم وبين جميع النظريات التي تنشأ فيها الإحتمالات نتيجة الجهل في الخصائص القياسية الكمومية.
بمعنى : أن الإضافات التي قام بها آينشتاين وپودلسكي وروزن حول طرح نظرية المتغيرات الخفية "Hidden Variables" والتي حاول فيها إرجاع ذلك اللاتعيين الكمي إلى قصور الإدراك الإنساني بجهله لبعض القيم الفيزيائية الغير مكتشفة بعد غير صحيح.
فقد أثبتت التجارب الفيزيائية الحديثة خطأ افتراضات آينشتاين، وبرهنت أن اللاتعيين الكمّي "العشوائية" ليست ظاهرة مقتصرة على حدود المعرفة الإنسانية للتجربة القياسية بل تتعدى ذلك إلى كونها ظاهرة أنطولوجية معرفية متأصلة في كوننا.
• • •
Missing some Tweet in this thread? You can try to
force a refresh
لدي اقتراح لأعزائي المؤمنين، أفتقد لذعة الحوارات الفيسبوكية مع هيثم طلعت وسامي العنية وأحمد حسن وغيرهم من يقدم نفسه كمجاهد الكتروني ضد "الملحدين" و "العلمانيين" وغيرهم من ذوي الفكر المنحرف، انا مستعد للحوار المثمر مع أكفائكم ودكاترتكم طالما يخلوا من العنتريات والبطولات الزائفة.
"الفكر المنحرف" كما يصفنا طاليس زمانه، ويا ليت لو نتناقش حول (هل نحن بحاجة للإله؟) بمعنى : هل هو ضرورة وجودية؟ أم خدعة وجودية؟ سيكون الحوار متأصلاً في عمق فلسفة التاريخ، والميثولوجيا.. بالاضافة للحفر الجينالوجي والابيستمولوجي لجذور فرضية الحاجة الإلهية.
في إنتظار متقدم، ومرشح يلتزم بمعايير الإستنتاج العلمي والمنطق العلمي في بناء الحجج، شخص متماسك فكرياً وذو تأصيل فلسفي، وله دراية بأهم نظريات حدث الوجود الفلسفية وما يتبعه من احاطة بميكانكا الكم والفيزياء الفلكية الخ... والا ساعتذر منذ البداية، لقلة وقتي وثمنه.
يقول الفيزيائي الفلكي كارل ساجان :
"You can't convince a believer of anything; for their belief is not based on evidence, it's based on a deep seated need to believe"
"لا يمكنك اقناع مؤمن بأي شيء لأن إيمانه غير مبني على الدليل، إنه مبني على الحاجة العميقة للإيمان". #عقلانيون
كما يتضّح من مقولة ساغان ومن النّظر في حقيقة مفهوم الإيمان الذي يعني ببساطة (غياب الدليل) الذي تحلّ محلّه الحاجة النفسية العميقة، لذلك كان يردد ساغان دائماً "لا أريد أن أؤمن، بل أريد أن أعرف"، ومن شروط المعرفة الصحيحة أن تكون مبنيّة على الأدلّة وأسس المنطق العلمي لتكون مقبولة.
وفي هذا الصدد يقول ساغان :
"Faith is clearly not enough for many people. They crave hard evidence, scientific proof. They long for the scientific seal of approval, but are unwilling to put up with the rigorous standards of evidence that impart credibility to that seal".
الدّين لم يكن يوماً للعقلاء، فالدّين يقوم أساساً على الصّلة والعاطفة النفسيّة مع الإله، ولا يقوم على أسُسٍ غيرها، فلا يمكنك إثبات وجود الإله "علمياً" لكن بإمكانك إثبات وجوده "نفسياً" في عقول المؤمنين.
يقول الأديب الكبير عبّاس العقّاد "إن الكون عظيم لا تحده العقول، ولكن عظمته تلك لم تغننا عن الإيمان بالإله؛ لأننا حين (نؤمن) إنما نطلب شيئًا غير العظمة فيمن نؤمن به، وذلك الشيء هو العاطفة والصلة النفسية واليقين بأنّ الحكمة الإلهية مرتبطة بحياة كل فرد منا".
ويقول أيضاً "والذي أراه أن الأديان جميعها تقوم على شيء أكثر من الإيمان بقدرة حكيمة
عظيمة في الوجود، تقوم على الإيمان بصلة العطف بين الإنسان وتلك القدرة فوق الإيمان
بحكمتها وعظمتها وسائر صفاتها".
يقول Albert Einstein معبّراً عن رأيه في قضية وجود إله الأديان الإبراهيمية :
"It seems to me that the idea of a personal God is an anthropological concept which I cannot take seriously".
"يبدو لي أن فكرة الإله الشخصي مفهوم أنثروبولوجي (بشري) لا أستطيع أن آخذه بجدية". #عقلانيون
آينشتاين هنا يعبّر بشكلٍ واضحٍ وصريح عن شكّه حيال وجود إلهٍ شخصي (skepticism)، مثل إله الأديان الإبراهيمية حيث وصف هذه الرؤية الفلسفية للإله بأنها رؤية naïve أي : ساذجة، كما نقرأ هنا في رسالته لBeatrice Frohlich في 17 ديسمبر عام 1952:
"The idea of a personal God is quite alien..
supplement : "The idea of a personal God is quite alien to me and seems even (naïve - ساذجة)."
ويقول أيضاً "My views are near those of Spinoza: admiration for the beauty of and belief in the logical simplicity of the order which we can grasp humbly and only imperfectly".
أُذكّرك بالقاعدة الأولى والأهم في المنطق والتي يعرفها طالب السّنة الأولى في الفلسفة، والتي تفيدُ بأنّ "المقدّمات الخاطئة تؤدّي حتماً لنتائج خاطئة" وهذا يقودنا تالياً إلى قاعدة منطقية أخرى تفيدُ بأنّ "النتائج الخاطئة تعني حتماً أن المقدّمات أو الإستدلال أو كلاهما كان خاطئاً".
فإذا كانت مقدّماتك التي انطلقت منها في بناء حججك مغلوطة فإستدلالك الكلّي مغلوط وهذا ما سأثبته في التغريدات القادمة.
في الواقع أحد أسوأ الجرائم التي ارتكبتها البشرية على مدار تاريخها كانت بحق المرأة، وسأتحدّث هنا حصراً وتحديداً عن ظلم المرأة من قبل الفلاسفة والمفكرين.
وفي هذا الصدد يقول المفكر النرويجي جوستاين غاردر "تاريخ الفلسفة محصور بالرجال، فقد كانت النساء مقموعات كنساء وككائنات مفكرة".
بدايةً من أفلاطون الذي اعتبر المرأة في الأصل نوع من أنواع العبيد، مروراً بمفكري العقد الاجتماعي مثل جان جاك روسو الذي قال في كتابه "Emile, or On Education" بأن المرأة تعيش في عالم آخر يمثل إمبراطورية النعومة، وأن عنوانها الشكوى وأوامرها ناعمة وتهديدها يعبر اندفاعات عاطفية.
بالإضافة إلى أنه حرم المرأة من حق تعليم أبنائها، واعتبر الإبن الحسن هو لدى الأب الحسن والزوج الحسن هو المواطن الحسن.