Thread by @sameh_asker

الدولة الأموية ارتكبت مظالم كثيرة وجرائم طوال تاريخها ، لكنها دامت حوالي 90 سنة والسؤال: كيف تدوم دولة هذه المدة الطويلة بينما لا يخلُ سجلها من حرب وفوضى ومجازر ومظالم وثورات
الجواب في هذا الثريد نحكي فيه قصة الأمويين لترسيخ حكمهم كيف حكموا وأخضعوا المنطقة لرؤيتهم
#نقد_الموروث

البداية مع الصحابي معاوية بن أبي سفيان الذي بدأ القصة بعقيدة الجبر ومقولته "لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه" كانت هي البذرة لخلط الدين بالسياسة وتشريع حكم الأمويين بدعوى أنه قضاء الله وقدره وعلى الشعوب أن تسمع وتطيع وإلا ستكون كافرة بالقدر

حكم معاوية بالجبر له جذور في كلمة الصحابي عثمان بن عفان "لا أخلع قميصا سربلنيه الله" ردا على الثوار الذين طالبوه بالتنحي، فعثمان كمعاوية كانوا يرون أن مُلكهم بإرادة إلهية مطلقة وليس مجرد سلطة دنيوية زمنية، وهذا الخط الفكري هو الذي ساد حقبة الأمويين طوال ال 90 عام.

كان الرسول يمنع تدوين حديثه ويأمر أصحابه فقط بالقرآن وأشهر من التزم بذلك هو الصحابي "عمر بن الخطاب" الذي سجلت له أكثر من واقعة في ضرب الرواه والمحدثين، ورغم ذلك خالف معاوية هذا الأمر وأعطى سلطة مطلقة لشخصين هما "أبو هريرة" و "كعب الأحبار" لتلك المهمة

كعب الأحبار لم يكن مجرد حبر يهودي أسلم، هذا كان ماكينة تفسير وقصص متنقلة ودوره المحوري في صناعة الحديث والتفسير جعل الفقهاء يشكون في علاقة أبي هريرة به كالإمام النووي، ويمكن اختصار دور كعب الأحبار في نشأة دين السنة والحديث كدور القديس بولس في نشأة المسيحية.

نفوذ كعب الأحبار وأبي هريرة في عصر معاوية تم توظيفه في شيطنة خصوم الأمويين في العراق، بينما قاموا بتمجيد أراضي الشام معقل سلطة بني أمية، فظهرت أحاديث فضائل الشام وكونها أرض المحشر وكفالة الله بها ليوم الساعة..وزيادة في الإثارة جعلوها هدف الدجال لتصوير خصوم الأمويين بالكفر.

بلاد الشام في عصر معاوية كانت أغلبيتها مسيحية سريانية آشورية مع أقلية يهودية ومسلمة، ظهرت أحاديث كعب الأحبار لتوافق معتقد الأغلبية المسيحية في قصة حياة المسيح في السماء ونزوله ليقتل الدجال..وهكذا، المقصد كان إرضاء الأغلبية لطاعة السلطة الأموية لا غير ولإيجاد مشترك تقريبي بينهم.

في وقت عمل أبي هريرة وكعب الأحبار على تمجيد الشام عملوا على شيطنة العراق، فجعلوا بلاد الرافدين هي مطلع الدجال وبها كل داءٍ عضال وبها تسعة أعشار السحر ومسكن الشياطين وفراخ إبليس..إلخ، والهدف كان حشد المتطوعين لقتال التمرد الهاشمي والخارجي فيها، ونجحوا في ذلك بشكل كبير

ما فعله أبي هريرة وكعب الأحبار وعبدالله بن سلام وبن منبه وغيرهم قلده فقهاء الأموية بعد موتهم عندما ثارت شعوب البربر المغربية وقاومت غزوات عقبة بن نافع بشدة، فظهرت أحاديث شيطنة البربر وأخرى لشيطنة الحجاز كونها كانت معقلا لعبدالله بن الزبير منها أن الحجاز موطن أحد الخسوفات السبعة.

كان هدف الأمويين من وضع الحديث والتفسير ليس فقط تشريع حكم الخليفة بإرادة إلهية ولكن لتبرير ما حدث في الفتنة الكبرى وأنها ليست ظلما
فبدأ الفقهاء بتشريع قولين:
1-هذه فتنة نجانا الله منها
2- المجتهد له أجران إذا أصاب وأجر واحد إذا أخطأ
وحملوا خروج معاوية على الاجتهاد

كان خروج معاوية على الإمام عليّ يضعه في مرتبة واحدة مع الخوارج ولكونه فئة باغية مأمور بقتالها في القرآن ، لكن بالقاعدة الثانية في أجر المجتهد المخطئ وضع نفسه مصيبا مسلما، بينما لم يحملوا نفس القاعدة على الخوارج رغم أنهم خرجوا على الإمام أيضا متأوّلين مجتهدين..!!

السلاح الثاني الذي اعتمد عليه الأمويون في بقاء سلطانهم كان (الإرجاء) أي لا حكم على أي بشر أو معصية بالكفر والإيمان عن طريق (إرجاء) شأنهم لله يوم القيامة، وتم تخصيص الإرجاء فقط للخليفة وبلاطه وفقهاءه..بينما وظفوا سلاحهم الأول (الجبري) ضد المعارضين ليكونوا كفارا بإرادة الله وقدره

عقيدة المرجئة انتشرت فقط داخل إطار النخبة الأموية وهي التي أفرزت عقيدة الإمام "أبي حنيفة" بعد ذلك حتى قال بها، واشتدت في حياة أبي حنيفة عندما ثار العباسيون وزالت السلطة الأموية عام 132 هـ، فكان مجرد إطلاق حكم إيمان وكفر وقتها على الطرفين خطر شديد يهدد حياة الفقيه

المعتزلة كانوا من أشرس معارضي هذا التزوير الأموي فعارضوا معتقد الجبرية بقولهم حرية الاختيار وهو الذي سماه فقهاء الأموية لاحقا (بالقدر) وعارضوا الإرجاء في بلاط الخليفة لكونه إنكارا لأصل الدعوة بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعلمهم أن الإرجاء كان يهدف بالأساس لتعطيل فضيلة النصح للحاكم

لاحظ ماذا فعل فقهاء الأموية ، كان الخليفة يتكاسل عن خلع حذائه (الخُفين) فأباحوا له الوضوء عليهما ورووا حديث المسح على الخفين لقطع الطريق أمام تكفيره أو اتهامه بالمعصية، ولأن الفتوى أصلها سياسي وضعوها في باب العقائد وشددوا الأمر بقبولها رغم أنها فتوى فقهية وأمر شديد التفاهة

عارض المعتزلة أيضا غزو البلدان واتهموا الخلفاء بالدنيوية وسرقة الأمم، كان موقفهم امتدادا لموقف الإمام عليّ الذي أوقف الفتوحات طيلة عهده، وتأثروا بموقف ابن الحنفية صديق واصل بن عطاء الذين تربى كلاهما في بيت الإمام عليّ، وبسبب هذه المعارضة اتهموا بالخيانة السياسية

بلاد فارس في هذا التوقيت كانت حديثة عهد بالإسلام لكن تقطنها أغلبية مجوسية ولأن الدين الزرادشتي يقول بحرية الاختيار فأقدم شيوخ الأمويين على وصف المعتزلة القدرية بالمجوس وبدأت ماكينة الروايات التي أسسها كعب وأبي هريرة بالعمل حتى ظهرت رواية (القدرية مجوس هذه الأمة) لتنفير الناس منهم

بعد سقوط الأمويين ورث الحكم آل البيت الذين كانوا يكرهون الإرجاء الأموي، فساروا على خط الأمويين باختراع الأخبار ووضعوا أحاديث الذم في المرجئة ، حتى جاء زمن المتوكل بالله الثائر على المعتزلة ووضعوا القدرية والمرجئة معا في سياق تشبيههم بالمجوس

نأتي هنا لدور "عبدالملك بن مروان" فهو الذي أنشأ الفترة الثانية للحكم الأموي ، نراه قد استلم الحكم عام 65 هـ والدولة شبه مفككة وعلى وشك الانهيار، أعاد أسلوب معاوية في الحكم وبدأ حقبته بشيطنة البربر ووضع أحاديث الذم في المغرب..والهدف كان حشد العوام ضد ملوك البربر كسيلة وديهيا

عبدالملك بن مروان استفاد من الفوضى السياسية التي كانت في عهد أبيه وضعف الدولة شجعه على اتخاذ قرارات جريئة جدا بدعوى الاستقرار، وهنا بدأت تظهر روايات طاعة الحاكم وإن ضرب ظهرك بقصد إنهاء الفوضى، ثم أوقف الفتوحات تماما ليتفرغ للقضاء على معارضيه طيلة حكمه ال 21 عام

كان عبدالملك بن مروات ذكيا وسياسيا بارعا، استغل خلاف معارضيه ودعم أحدهم ضد الآخر ليضعفهم، حدث ذلك عندما دعم مصعب بن الزبير ضد المختار الثقفي، أدت معاركهم لقتل المختار وإضعاف مصعب حتى أصبح الإجهاز عليه سهلا، أما الخوارج فبدأ يحشد ضدهم بدعوى الدين وهنا بدأت تظهر روايات ذم الخوارج

تخيل ماذا فعل عبدالملك؟..إنه قضى على ثورتي الأشعث والتوابين، واستغل بدهائه خلاف مصعب بن الزبير مع ورثة دم الإمام الحسين في جيش المختار الثقفي، ثم قضى على تمرد مصعب وأخيه عبدالله في الحجاز،حدث كل ذلك في عز تصديه لثورات المغاربة الأمازيغ ولم يضعف جيشه لحظة..إنه فعلا قائد عسكري محنك

لم يكن عبدالملك قويا لهذه الدرجة لولا أنه ورث شعبا أمويا يعتقد بألوهية منصبه وأن الخروج عليه يساوي الكُفر، وكذلك الفوضى التي حدثت في عهد أبيه وأقاربه، كانت وقتها السلطة الأموية مفككة ولا نفوذ لقصر دمشق سوى على بعض أراضي الشام فقط، وضع كهذا شجعه على المغامرة وهو ضامن نتائجها

أما الشيعة في عصر عبدالملك فضعفوا بعد مقتل المختار الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي قائد ثورة التوّابين، فشل ثورتي هؤلاء لاستعادة ملك آل البيت حمل عبدالملك على الانتقام ومطاردة بقاياهم لنواحي خراسان، حتى بقيوا هناك ليؤسسوا الجيش العباسي الذي جاء لينتقم من الأمويين بنفس الدرجة وأشد

بعد وفاة عبدالملك ورثه أبنائه "الوليد وسليمان ويزيد وهشام" كان أقواهم هشام الأخير الذي استعاد مجد أبيه بنفس الأسلوب وظل يحكم 20 عاما بنفس طريقة معاوية وعبدالملك، جبرية وإرجاء وتشجيع ودعم للمحدثين حتى قضى على ثورات الزيدية والبربر مرة أخرى ووطن سلطانه بأحفاد كعب وأبي هريرة

في زمن هشام بن عبدالملك ظهر خمسة محدثين هم مؤسسي مذهب أهل الحديث الأصليين (مالك بن أنس - ابن شهاب الزهري - قتادة بن دعامة - معمر بن راشد - الأوزاعي) جميعهم خدموا سلطة هشام بحملات فقهية وفكرية روائية تبرر للعامة أفعال هشام الذي وظّف كل هذا الدعم لإحياء غزوات أبائه في الأندلس

على جانب آخر..لما أيد الإمام أبو حنيفة النعمان ثورة الإمام "زيد بن علي" في الكوفة هدده هشام بن عبدالملك بالقتل كما قتل "غيلان الدمشقي" فاعتزل أبو حنيفة السياسة وظل على رأيه بالإرجاء تجنبا لبطش هشام ومن بعده ظل صامتا إلى أن ثار النفس الزكية عام 145 هـ وهدده المنصور بنفس الطريقة

يرجى العلم أنه من دولة إسلامية بلغت في اتساعها وقوتها أكبر من الدولة الأموية، حكموا من حدود الهند شرقا إلى الأندلس غربا ومن حدود آسيا الصغرى شمالا لحدود النوبة واليمن والحبشة جنوبا، ما كان هذا ليتم لولا هذا السياق الديني الفكري السلطوي المميز لعصر بني أمية

كان الأمويون إذا أرادوا غزو بلد أشاعوا فضل غزوها الديني والنبؤات بفتحها، فإذا استعصى فتحها أشاعوا أن دخولها من علامات الساعة، حدث ذلك مع الهند والقسطنطينية، لما فشلوا في دخولهم قالوا أن ذلك يحدث آخر الزمان ليبرروا به الهزائم ولحفظ معنويات العامة وقطع الطرق على المعارضين

والثابت تاريخيا أن أول حركة شعوبية قومية في الإسلام حدثت في عصر عبدالملك، حين مكّن للعنصر العربي وبدأ في تعريب الدواوين وتشكيل القرآن وفقا لاتجاه قومي عروبي وقتها ،أدى ذلك لتمييز العرب في الوظائف والثروة مما أدى لردة فعل شعوبية من الموالي الفرس والترك بعدها في العصر العباسي