مفتاح الجواب:
النظر في القراءات الواردة في الآية، ثمّ معاني المفردات على كلّ قراءة، ثم توسّط الحرف بين فعلين لهما تعلّق به، ثم أسباب الصداع على أحد المعاني.
فمن نظر في ذلك كلّه وجد أنه لا يقوم مقام "عن" حرف آخر من الحروف يؤدي جميع هذه المعاني كما يؤديها.
أشكر جميع المشاركين في الجواب على هذه المسألة، وقد أتت إجابات أكثرهم على جوانب مهمة من الجواب.
وهذه المسألة بديعة عجيبة، وهي من دلائل إحكام القرآن، وحسن بيانه، وبركة ألفاظه ومعانيه.
وجوابها يتعلق بأنواع من علوم القرآن، ولذلك سألخص الجواب في نقاط، وأسأل الله التوفيق للصواب.
{لا يصدعون} قُرئت على أحرف تحتمل معاني متعددة، ولذلك اختلف المفسرون فيها على أقوال:
1: لا يُصَدَّعون:أي لا يصيبهم الصداع بسببها،والصداع من الخمر يأتي بسبب شربها، وبسبب انقطاعها،وقد نُفي عنهم الأمران،وعن هنا تفيد السببية كما في قول الله:{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة}
2: لا يُصَدَّعون، من التصديع، وهو التفريق، أي لا يُفرّقون عنها كما يُفرَّق أهل الخمر في الدنيا.
وعن هنا تفيد المجاوزة.
والقول الأول والثاني تحتملهما القراءة المشهورة {لا يُصَدَّعون عنها} وهي قراءة الجمهور.
3: لا يتفرّقون، وهذا القول موافق لقراءة مروية عن مجاهد: [ لا يَصَّدعون] بفتح الياء، وأصلها يتصدّعون أي يتفرقون.
فلا يتفرقون عنها من شدة لذتها ومن تآلفهم عليها، ووفرتها،
فهي ليست كخمر الدنيا التي يحصل التفرّق عنها بفنائها وبآفاتها وباختصام شاربيها وتنازعهم.
4: لا يُفرِّقون غيرَهم عنها، وهو معنى موافق لقراءة من قرأ [ لا يُصَدّعون عنها ] بضم الياء وكسر الدال مشددة.
فهم من كرمهم ووفرتها لا يُفرّقون غيرهم عنها، ولا يشحون بها كما يشح أهل الخمر في الدنيا بخمورهم.
و"عن" في هذا القول والذي قبله للمجاوزة أيضاً.
وقوله تعالى: {ولا يُنزفون} قرئ بفتح الزاي وكسرها، ولذلك اختلف المفسرون فيها على قولين:
1: لا يُنزَفون، أي لا تذهب عقولهم وتُنزف من الخمر فيسكرون كما يسكر أهل الدنيا بخمرهم، وهو قول الجمهور.
قال أبو إسحاق الزجاج: (والنزيف السكران، وإنما قيل له نزيف ومنزوف لأنه نزف عقله).
2: لا يُنزِِفون، أي لا ينفد شرابهم ولا يفنى عن كثرة الشرب
فهم في أمان من سكرها وفنائها كما قال الله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}.
وقد قرئ بالقراءتين في هذا الموضع أيضاً، وفيهما المعنيان المذكوران.
فمن نظر في هذه المعاني وتنوعها واتّساقها علم أنه لا يقوم مقام حرف "عن" حرف آخر من الحروف تتّسع دلالتها لهذه المعاني كلها.
وتبيّن تصديق القرآن بعضه لبعض، وتوافق القراءات، وتنوّع معاني الحروف بتعدّد ما تحتمله المفردات من المعاني.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
ومن شواهد إطلاق لفظ التصدع على معنى التفرق في لغة العرب
قول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
أمثال زيد حين أفسد رهطه ... حتى تشتت أمرهم فتصدعوا
تصدَّعوا: أي تفرّقوا
وقال متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محمودا أخي حين ودعا
فمن شدّة ائتلافهما شبه نفسه وأخاه بالشيئين المتماسكين الذين لا يتفرقان إلا بالتصدع.
وهذا فيه لطيف أخرى تدل على اختيار لفظ {يصدعون} في الآية على [يُفرَّقون] فهي تدل على الائتلاف الغامر بينهم حتى كأنهم من شدة ائتلافهم وحبورهم ببعض سمي التفرق المنفي تصدعاً.
والله تعالى أعلم.
*لطيفة
• • •
Missing some Tweet in this thread? You can try to
force a refresh
سأتحدّث إليكم - بعون الله - عن سبب قد يخفى على كثير من الناس وهو داؤهم الدوي الذي منعوا به إجابة كثير من دعواتهم، وحرموا به خيراً عظيماً وفضلاً كبيراً، فعاشوا في نكد يتقلبون فيه بين التسخّط والحرمان، والعياذ بالله.
هذا السبب ذكره الله عزّ وجلّ وبيّن أثره العظيم في مواضع من القرآن الكريم، وبيّن أنه لم يسلم منه إلا قليل، وما يزال بعض الناس لا يميّز بين الدعاء الصادق والأمنيات الباطلة؛ فيتمنَّى على الله الأماني ويتسخّط من عدم تحققها.
ذلكم السبب الخطير هو التفريط في شكر سوابق النعم بل ربما مقابلتها بالتسخّط والتبرّم ونسيان حقّ الله تعالى فيها، أو نسبة العبد ما هو فيه من النعمة لنفسه بذكائه أو مكانته {إنما أوتيته على علم عندي}
وربّما لو فتّش إنسان في نفسه وتفحَّص قلبه وجد فيه شيئا من هذا البلاء وآثاره.
يخطئ كثير من الناس في فهم الحديث الوارد في فضل سورة البقرة ( أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)
ويظنّ أنّ مجرّد قراءتها يحصل به هذا الثواب
وقول النبي ﷺ (أخذها بركة) لفظ الأخذ أعم من مجرّد القراءة؛ فهو يشمل الإيمان بها وتعاهد تلاوتها والتفقه فيها واتّباع ما فيها من الهدى
وذلك أنّ كلَّ ما ينافي الأخذ الشرعي لسورة البقرة لا يتحقق به المطلوب، والنبي ﷺ قد أوتي جوامع الكلم فيدلّ قليل لفظه على كثير من المعاني.
- فمن لم يقبلها لم يأخذها
- ومن هجر تلاوتها لم يأخذها
- ومن أعرض عن التفقه فيها لم يأخذها
- ومن أعرض عما فيها من الهدى فلم يتبعه لم يأخذها
جمعت هنا الأحاديث الواردة في فضل سورة البقرة وصنفتها إلى صنفين:
- صنف للصحيح منها.
- وصنف للضعيف.
من دلائل سعة معاني القرآن تعدد الأوجه الإعرابية للمفردات والجمل القرآنية، ودلالة كلّ وجه على معنى بياني يختلف عن دلالات الأوجه الأخرى؛ فتدلّ الآية بوجوهها الإعرابية الصحيحة على معانٍ واسعة تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتعارض.
من الأمثلة العجيبة احتمال جملة {فلن يخلف الله عهده} في قول الله تعالى: {قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} لخمسة أوجه إعرابية ؛ يؤدّي كلّ وجه منها معنى لا يؤدّيه غيره، وتكتمل هذه المعاني بإحكام بديع.
الوجه الأول: الجملة معترضة لا محلّ لها من الإعراب، و{أم} متّصلة، وتقدير المعنى على هذا الوجه: أتخذتم عند الله عهداً؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ واعترضت جملة {فلن يخلف الله عهده} بينهما لرفع توهّم خلاف المراد.
وهذا قول ابن عطية.
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فسأضع تحت هذه التغريدة -إن شاء الله- روابط ما يسَّر الله كتابته من #رسائل_التفسير تقريباً لهاً وتعريفاً بها رجاء أن يجعلها الله من العلم النافع والعمل المتقبَّل.
وأدعوا المعتنين بالتفسير للمشاركة في الوسم بما لديهم من رسائل تفسيرية.
وينبغي لطالب علم التفسير إذا اكتسب قدراً حسناً من دراسة التفسير وأصوله أن يعنى بكتابة الرسائل التفسيرية المفردة في مسائل ينتقيها، ويبدئ ويعيد في تهذيبها وتحريرها؛ فإنه ينتفع بذلك انتفاعا عظيماً في تنمية ملكته التفسيرية وتوسيع مداركه.
وقد كان لجماعة من العلماء عناية بكتابة #رسائل_التفسير
وهي من مظانّ التحرير العلمي وجواب ما قد يشكل، واستيفاء شرح مسائل الآيات وهداياتها بما قد لا يوجد نظيره في التفاسير الكبيرة.
وكم من عالم لم يؤلّف تفسيراً تاماً للقرآن وله رسائل في التفسير تنبي عن إمامته وتقدّمه في علم التفسير
- عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة؟
فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» رواه مسلم وغيره.
وظاهر النصّ أنه يكفّر حتى الكبائر لغير المصرّ عليها؛ والناس يتفاضلون في إحسان الصيام؛ فكلما كان الصيام أحسن
كأن أثره في تكفير الذنوب أعظم.
ومما يعين على حفظ الصيام المكث في المسجد أو المكث في البيت والاشتغال بالدعاء والذكر والتلاوة
قال الحسن البصري: (أوّل من عرّف بالبصرة ابن عباس).
والتعريف أن يخطب بالناس في المسجد؛ فيعظهم ويتلو عليهم القرآن ويفسّره، وقد روي أنه كان يقرأ عليهم سورة البقرة عشية عرفة فيفسرها آية آية
- وقال موسى بن أبي عائشة : «رأيت عمرو بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه» رواه ابن أبي شيبة
وعمرو بن حريث المخزومي رضي الله عنه ولد قبل الهجرة بسنة أو سنتين ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من قراء الصحابة زمن عمر بن الخطاب، وبعثه مع من بعثهم إلى الكوفة لتعليم الناس
وإذا أحسن طالب العلم دراسة مسائل الخلاف القويّ، وبعض مسائل الخلاف المتوسّط كان ما بعدها أيسر عليه.
(3) من أشهر من سلك هذه الطريقة في تعليم التفسير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فله كتاب فيه "تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء" وذكر ابن رشيّق له أكثر من سبعين رسالة أفردها في بعض مسائل التفسير، بعضها في مجلد وبعضها في بضع ورقات.