يبدو أن ردة الفعل كانت عاتية على السويدان، حتى اضطر للانحناء أمام العاصفة، وكتب منشورا استعمل فيه مهاراته في التلوّن، وتلك عادته!! بل لقد أخرج من جعبته كتابا كتبه في السبعينات، يوم كان يكاد يكون سلفيّا قُحا، حتى إن زملاءه في الدراسة بأمريكا يروون عنه عجائب لا يصدقها من يعرفه الآن
بعيدا الآن عن السويدان نفسه..

وبعيدا كذلك عن أن مشكلة السويدان لم تكن منشوريْه اللذيْن كتبهما في الأيام الماضية، إذ سيرته في السنوات العشرين السابقة على الأقل طافحة بالمشكلات والتصورات..

بعيدا عن هذا كله، سأحاول أن أخبرك بأمرٍ ينفعك في تقييم حال المنتسبين إلى العلم والدعوة..
إن بعض الناس تخرج من درسه أو كتابه وقد امتلأت نفسك بهمّ الإسلام، وازددت به إيمانا، وزاد في قلبك بغض الكفر والظلم والجاهلية، وربما بعث فيك الحماسة للعمل في سبيل الدين.

ولكن بعض الناس تخرج من درسه أو كتابه، وقد امتلأت نفسك ببغض التشدد والمتشددين، وشعرت بهمّ إيجاد تفسير جديد
للإسلام، وقراءة جديدة للتراث، وضرورة أن نفكر من جديد في معنى النصوص، وضرورة الانفتاح على العالم، والنهل من الحضارة المعاصرة.

النوع الأول تتشرب منه حبا جارفا للصحابة والتابعين وثلة العلماء والدعاة عبر العصور.. فتراهم خير من ظهر في هذه الدنيا، علما وعدلا وإنصافا.. وإن كانوا بشرا
تصدر منهم الأخطاء وتقع بينهم الفتن أحيانا.

أما النوع الثاني فتتشرب منه منهجا نقديا متشككا قبل أن تستوي عندك الأصول، ونقده وتشككه ينصب على المسلمين: الصحابة والعلماء والفقه والدعاة.. لينتهي بك الأمر في أدنى أحواله إلى تعظيم "متحفظ، متشكك" لأولئك الذين هم صدر الأمة ونجومها
وأعلامها وطلائع الخير فيها.

وتتشرب مع ذلك قاعدة خفية سارية تقول: مشكلتنا كمسلمين أننا لم نستوعب الحضارة المعاصرة، أو لم نفهمها، أو حتى لم نسبق إليها فنصل إلى ما وصلوا إليه قبلهم.. فكأن الحضارة المعاصرة هي الغاية التي نسعى إليها، وكأنها هي التقدم الذي ننشده.
فبينما ينزع بك النوع الأول إلى إصلاح الواقع ليوافق الدين، ينزع بك النوع الثاني إلى "إصلاح" الدين ليوافق الواقع.

وأخطر ما في هذه المدرسة، وهذه والله نصيحة مُجَرِّب عاش مع إنتاج هؤلاء دهرا، أنها لا يمكن أن تصنع فيك الاطمئنان للدين ولا اليقين فيه.. إنها تغرس فيك نزوعا إلى البحث عن
الخلاف، بل عن الشاذ من الآراء، فأنتَ في مهمةٍ لتجميل الإسلام لكي يناسب العصريين المتفوقين، سواء أكانوا من الغربيين أو من النخب الحاكمة أو العليا في بلادنا، وهي نُخَبٌ متغربة!

حتى إذا صدمتك بعض الأحكام الفقهية، ثم صدمك أنها مما اتفق عليه الجمهور، أو اتفقت عليه المذاهب الأربعة،
أو حتى كانت إجماعا بين العلماء لا يُعرف فيه مخالف، وجدتَ نفسك متضايقا ومتحرجًا من هذه الأحكام، ثم طفقت تسأل أصحاب هذه المدرسة لتتفاجأ بما عندهم من بضاعة جديدة تهدم لك الأصول واللغة وميراث الفقه، لتجد نفسك في مساحة جديدة حيث يتحول الدين إلى مقاصد عامة، وقيم إنسانية، وسعي إلى
السلام العالمي.. و... و... إلخ!

فكيف يبقى لديك إيمان بالله وبالإسلام إذا كان الحال قد انتهى إلى مقاصد عامة وقيم عامة وتصورات إنسانية عامة؟!

كيف يبقى لديك اعتزاز بالإسلام وفخر به إذا كان ما يدعو إليه الإسلام هو ذاته ما يدعو إليه أي فيلسوف كأفلاطون وأرسطو وجون لوك وفولتير.. بل
حتى ما يدعو إليه مشروع الديانات الإبراهيمية؟!

كيف يمكنك أن تفهم معنى المفاصلة والولاء والبراء، وكيف لك أن تقرأ سيرة النبي وغزواته، ومفاخر الصحابة الذين هجروا وهاجروا وقاتلوا آباءهم وأهليهم في سبيل الدين.. ترى هل كان الأمر حقًّا يستحق؟!

بقليل من تطوير الفكرة ستسأل نفسك: لماذا
يكون أبو جهل في النار، والرجل كان كريما مضيافا شهما، سيدا من سادات العرب، وإنما تمسَّك بدينه الذي يعبد فيه الأصنام (وهي حرية شخصية طبعا)، وتمسك بالوحدة الوطنية لبلده مكة؟!!

نعم، ليس كل الناس وصل إلى هذه المرحلة.. ولكن كثيرا منهم وصل! وأنا أعرف بعضهم وكنت متابعا لتطورهم.. الأمر
يبدأ من هذه الفكرة الخفية التي تقول علينا مراجعة ديننا ليناسب العصر.. تلك هي أم الخبائث!

ولا أتحدث هنا عن مسار حتمي، أبدا.. إنما أتحدث أصلا عن خطورة أن تفقد الاعتزاز بالإسلام والفخر به والشعور بأنه قضية حياة، الشعور بأن هذا العالم في جاهلية وظلم وانحلال وفساد خطير بغير هذا الدين
، والإيمان بأن هذا كله لن يصلح إلا بهذا الدين.

هذا المعنى هو ما أريد هنا التركيز عليه.. هذا هو المعنى الذي يغيض ويختفي في كتابات مدرسة أولئك الدعاة الذين كان أصل فسادهم انبهارهم المنسحق بالحضارة المعاصرة.

بغير هذا المعنى لن يمكنك أن تفهم القرآن.. بل ستكون محرجا من كثير من
الآيات.. وستكون محرجا من كثير من الأحاديث.. ولن تفهم أصلا لماذا يبدو الكفر عملا شنيعا جدا في القرآن والسنة والسيرة وكلام العلماء.. لن تفهم لماذا لا يبدو مجرد حرية شخصية؟!

ستحتار، لماذا حديث القرآن -مثلا- عن الكفر والإسلام أكثر بكثير وأحرَّ بكثير من حديثه مثلا عن الظلم والعدالة!!
ستحتار أيضا، بل هذا موضع ستهلك فيه من الحيرة، لماذا قبل العلماء ولاية المتغلب طالما أنه يقيم الدين؟!

ربما تحتار وتسأل نفسك كثيرا، لماذا لم يصف الله خلقه للبشر والكائنات بالتفصيل، كي ينتهي هذا النزاع حول نظرية التطور، وهل هي خاطئة أم هو تطور موجَّه؟
ستحتار كثيرا كثيرا.. وإذا تأمَّلتَ فسترى أنك تحتار دائما في المواطن التي يتناقض فيها الإسلام مع الحضارة الغربية المعاصرة فحسب!!

مشكلة هذه المدرسة باختصار أنك لن تخرج منها وقد ازداد إيمانك، بل ستخرج منها وأنت تحاول تلفيق رأي ترضاه بين دينك وبين الواقع، مع كثير من السخط على
التشدد والمتشددين والفقه والتراث العقيم، ومع كثير من أدوات مواجهة الجمود الفقهي، وأدوات إعادة قراءة التراث وإعادة تفسير النص القرآني والنبوي.

فاختر لنفسك..

• • •

Missing some Tweet in this thread? You can try to force a refresh
 

Keep Current with محمد إلهامي

محمد إلهامي Profile picture

Stay in touch and get notified when new unrolls are available from this author!

Read all threads

This Thread may be Removed Anytime!

PDF

Twitter may remove this content at anytime! Save it as PDF for later use!

Try unrolling a thread yourself!

how to unroll video
  1. Follow @ThreadReaderApp to mention us!

  2. From a Twitter thread mention us with a keyword "unroll"
@threadreaderapp unroll

Practice here first or read more on our help page!

More from @melhamy

3 Apr
لماذا لن يحتفي السيسي بفتح مصر أو بالمخطوطات الإسلامية أو بآثار المماليك؟.. لماذا الاحتفال حصرا بالآثار الفرعونية؟!
هذا مقتطف من مقال قديم:
"في نظريته الشهيرة "الجماعات المتخيلة" يتحدث عالم الاجتماع الشهير بندكت أندرسون عن أن هذه الهويات التي تشكلت في العالم الحديث ليست سوى هويات
"مُتَخَيَّلة"، ذلك أنها غير مستمدة من أي حقيقة طبيعية كالدين واللغة والعرق، وإنما هي مصنوعة بأدوات السلطة، والمختصر الموجز لنظريته يفيد بأن السلطة التي امتلكت وسائل مثل الإعلام والجهاز الإداري تمكنت بهذا من أن تصنع هوية للذين تحكمهم، فهي قد صنعت الحدود التي تفصل بين الناس فيكون
من بداخل هذه الحدود مواطنا ورعية لها، تقدم له خطابا إعلاميا يُرَسِّخ هذه الهوية عبر وسيلة الإعلام (منذ الطباعة وحتى التليفزيون) وعبر الإحصاء وعبر المتحف.
ما يهمنا في سياقنا الآن: الإعلام والمتحف، وسنبدأ بالمتحف لأنه الوسيلة التي تعاملت حصرا مع التاريخ، ومن هنا فلقد كان المتحف هو
Read 17 tweets
3 Apr
أيهما أجمل..

صورة ميدان التحرير بالأمس، وقد أخذ زخرفه وزينته استعدادا لموكب نقل المومياوات؟!

أم ميدان التحرير نفسه وهو ممتلئ بشباب الثورة، وقد علاهم الغبار وغرقوا في عرقهم وتلطخوا بجراحاتهم؟!

الصورة الأولى تُخْبِر عن سلطة قاهرة مُتَمَكِّنة ذات مال وسطوة ونفوذ وزينة وزخارف،
ولا تخبر عما خلفها من شعب مقهور مطحون مسحوق يعاني من الفقر والجوع والمرض والظلم.

والصورة الثانية تدلّ على شعب يثور، يكافح ليظفر بالتحرر، يشعر في هذا الميدان بالأمن وبالأمل، مع أنه ميدانٌ مُعَفَّر مُغَبَّر تنتشر فيه روائح حريق بعض المركبات وتتناثر على جانبيه الحجارة المُكَسَّرة!!
لا أشك أن هاتين الصورتيْن مثالٌ جديدة سأستخدمه في بيان المعنى الذي طالما احتجت إلى كتابته وشرحه..

المعنى الذي يقول إن العصر الذهبي لأمتنا الإسلامية هو عصر الخلافة الراشدة.. لا هو عصر الأمويين ولا العباسيين ولا العثمانيين!
Read 13 tweets
13 Dec 20
من أولئك النادرين الذين لم أستطع الكتابة في لحظة وفاتهم، المهندس أيمن عبد الغنى رحمه الله!

تقتصر علاقتي به على أربعة مواقف أو خمسة لا غير، إلا أنها جميعا مواقف مؤثرة.. وتأمَّل في حال رجل تعامله خمس مرات فحسب، فيترك في نفسك خمسة قصص لا تنساها!!
كان واسع الصدر، سمحا هينا لينا، باسما رفيقا ألوفا، قد آتاه الله بسطة في الجسم ومع ذلك فهو من آيات الرقة، كما آتاه بسطة في المال ومع ذلك هو من آيات التواضع!!

بوفاته فقدت جماعة الإخوان أحد ألمع وجوهها، وأوسع أبوابها، وأيسر مداخلها.. ومثله ممن يُقال فيه:
وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكَ واحد .. ولكنه بنيان قوم تهدَّما

إن بعضا من إخوانه كان لا يلقي عليّ السلام إذا التقيْنا، بل لا يردّ السلام إذا ألقيتُه عليه.. أما هو، فكان يبادر بالسلام البشوش وإن لم أكن منتبها..
Read 7 tweets
12 Dec 20
مشكلة "حزب العدالة والتنمية" المغربي، هي فرع عن مشكلة الحركات الإسلامية التي تصوَّرت أنه يمكنها أن تنفذ مشروعها من خلال وسيلة الديمقراطية المتدرجة الإصلاحية!

إن وسيلة التغيير الحقيقي الفعلي في سياسات نظام الحكم لا تجري عبر الديمقراطية. فالديمقراطية هي وسيلة تبادل الأدوار
بين المختلفين جزئيا ضمن الاتفاق العام في المسائل والتوجهات الكبرى، كالهوية وما يتفرع عنها من السياسات العامة.

لا نستطيع أن نتذكر تجربة ديمقراطية نقلت بلدا ما من شيوعية إلى رأسمالية، أو العكس.. في الواقع مسائل الهوية تُحسم بعد الحروب والنزاعات والثورات.
وبينما قامت الحركات الإسلامية أساسا لتغيير الواقع الذي فرضه الاستعمار ثم وكلاؤه من بعده، فإن هزيمة الحركة الإسلامية وما نزل بها من المجازر، جعل طائفة منها تفكر في تجنب الصدام، وتتخذ ذلك مبدأ لا حيدة عنه!

كان يمكن لهذا أن ينجح لو تحقق شرط واحد،
Read 18 tweets

Did Thread Reader help you today?

Support us! We are indie developers!


This site is made by just two indie developers on a laptop doing marketing, support and development! Read more about the story.

Become a Premium Member ($3/month or $30/year) and get exclusive features!

Become Premium

Too expensive? Make a small donation by buying us coffee ($5) or help with server cost ($10)

Donate via Paypal Become our Patreon

Thank you for your support!

Follow Us on Twitter!