نحمد الله أننا نعيش في عصر جديد، حيث نزلت الدولة من عليائها وأزيح عنها ستار "الحق الإلهي" المقدس، وأصبحنا ننظر إلى الحكام كما ننظر إلى الخدام الذين يستأجرهم الناس في رعاية شؤونهم.
دخلت ذات مرة دائرة من دوائر الحكومة فرأيت أعرابياً حافياً رث الثياب يهدد الموظف ويتوعده ويفرض عليه أمره كما يفرض أي سيد من سادة القرون الماضية أمراً على عبيده. فشعرت أني أعيش في عصر جديد.
وقد قارنت هذا بما مر علي في مطلع شبابي حين كنت أدخل الدائرة الحكومية وأنا أتعثر بأذيالي خشية أن يأمر الموظف بحبسي وهو السيد المطاع.
قدمت قبل ربع قرن عريضة إلى أحد الموظفين وفيها كثير من علامات التعجب والإستفهام، إذ كنت قد تعلمت ذلك من قراءة الجرائد. ولم يكد ينظر الموظف في عريضتي حتى مزقها وطردني طرداً شنيعاً..
وهو يقول:"أهي عريضة أم جريدة؟!" ولم أكد أصل باب الدائرة حتى أطلقت ساقي للريح مخافة أن يركض ورائي أحد الجلاوزة.
تعودت أخيراً أن أدخل الدوائر الحكومية وأنا مرتفع الرأس، وذلك بعد أن درست مبادىء الحكومة الديمقراطية وأخذت أنظر إلى الموظف كما أنظر إلى الخادم المأجور.
أما والدي فهو لا يزال يخاف من دخول الدوائر. وهو لا يكاد يرى موظفاً قادماً حتى يشعر بالرعدة، إذ هو يتصور الموظف قد جاء من أجل التجنيد الإجباري أو من أجل الضريبة، فيلتفت بقلبه نحو الله يسأله المعونة.
ليس والدي إلا واحداً من ملايين الناس الذين أدركوا عهد السلاطين وتعلموا أن يقولوا في كل صباح ومساء:"اللهم انصر الدين والدولة". وحين أقول لوالدي:"إن الحكومة يجب أن تكون من الشعب ومن أجل الشعب". ينتفض رعباً ويقول:"أخفض صوتك يا ولدي فإن للجدار آذان!"
سامح الله سلاطين المسلمين، فقد عودوا آباءنا على الطاعة الخانعة. ولم يكفهم هذا بل علموهم على أن طاعتهم من طاعة الله. وبهذا استطاع السلاطين أن يعبثوا بالناس وأن ينهبوا أموالهم وينتهكوا حرماتهم، فلا يعترض عليهم أحد. وبذا دخل المسلمين في دياجير القرون المظلمة.
قرأت في مجلة دينية تصدر في بغداد، فقرة عنوانها:"السلطان"، هذا نصها:"السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق وقواد الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم ويأمن خائفهم"
وهذه المجلة تصدر في القرن العشرين واسمها "الثقافة الإسلامية". فهي لا تستحي من #الإسلام الذي تدّعي الإنتساب إليه، ولا تستحي من العصر الذي تعيش فيه. إنها تكتب اليوم كما كان وعاظ السلاطين يكتبون قبل عشرة قرون.
على المسلمين أن يأخذوا دينهم من منبعه الأول وينبذوا الدين الذي يأتي به الكهان المأجورون.
فوجئت بحادثة تصح أن تكون نموذجا رائعاً لمهزلة العقل البشري. فقد ألقيت محاضرة عامة في قاعة الآداب، حاولت أن أبحث فيها بعض ظواهر التفسخ الخلقي والاجتماعي في #مكة قبل البعثة المحمدية.
وقد أشرت أثناء المحاضرة إلى مدى التشابه بين التفسخ الذي كانت عليه قريش آنذاك وهذا التفسخ الذي عليه المترفون من قومنا في هذا العصر. ولم يكن يخطر ببالي أن هناك من بين المستمعين من يقدس قريشاً أو يقدس المترفين في عصر من العصور.
سئلت أثناء المحاضرة عن النبي محمد. ورأيي في هذا #النبي معروف، يعرفه جميع طلابي الذين يحضرون صفوفي وجميع القرّاء الذين يقرأون كتبي، وليس عندي ما أكتمه في هذا الصدد.
خلاصة الأمر أن السلاطين استطاعوا أن يمسخوا جميع المبادىء الإجتماعية التي جاء بها #الإسلام وضحى الشهداء أرواحهم في سبيلها، فحولوها عن طبيعتها الأولى وجعلوها ركيزة من ركائز نظامهم الغاشم.
وهذا كان من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام في عهوده المتأخرة مطبوعاً بطابع الخنوع والجمود الفكري الإجتماعي، فلا نور فيه ولا نار!
صار المسلمون لا يفهمون من الدين سوى القيام بالطقوس الشكلية،ثم يرفعون أيديهم بالدعاء:"اللهم انصر الدين والدولة". أمسى الدين والدولة في نظرهم شيئا واحدا. فالمعارض للدولة هو عدو الدين،والمصلح الديني هو معارض للدولة. ولم يبق لسلطان المسلمين إلا أن يقول ما قال فرعون:"أنا ربكم الأعلى!"
يحتفل #الشيعة في أيامنا هذه بمقتل #الحسين إحتفالاً ضخماً. فهم يذرفون فيه الدمع الغزير، ويلطمون الصدور والظهور، ويجرحون الرؤوس. ولنا أن نقول أن إحتفال الشيعة هذا أمسى "طقوسياً" ليس فيه من روحه الثورية الأولى شيئاً.
يبكي أحدهم على #الحسين في مجلس التعزية ثم لا يبالي بعد ذلك أن يسير في الناس سيرة يزيد.
وإني لأنظر أحياناً إلى بعض المتزعمين الذين يتصدرون المواكب أو يقيمون الولائم باسم الحسين، فأراهم لا يختلفون في أخلاقهم عن بني أمية ولست أستبعد من أحدهم أن يقتل #الحسين حين يأمره يزيد أو يغمز له معاوية. إنهم يبكون على الحسين في شهر محرم ثم يقتلونه في الأشهر الأخرى.