فوجئت بحادثة تصح أن تكون نموذجا رائعاً لمهزلة العقل البشري. فقد ألقيت محاضرة عامة في قاعة الآداب، حاولت أن أبحث فيها بعض ظواهر التفسخ الخلقي والاجتماعي في #مكة قبل البعثة المحمدية.
وقد أشرت أثناء المحاضرة إلى مدى التشابه بين التفسخ الذي كانت عليه قريش آنذاك وهذا التفسخ الذي عليه المترفون من قومنا في هذا العصر. ولم يكن يخطر ببالي أن هناك من بين المستمعين من يقدس قريشاً أو يقدس المترفين في عصر من العصور.
سئلت أثناء المحاضرة عن النبي محمد. ورأيي في هذا #النبي معروف، يعرفه جميع طلابي الذين يحضرون صفوفي وجميع القرّاء الذين يقرأون كتبي، وليس عندي ما أكتمه في هذا الصدد.
هناك فرق كبير بين عقيدتي في #النبي وعقيدة هؤلاء المتزمتين من رجال الدين. إنهم قد تأثروا في عقيدتهم بأفكار المترفين وأخذوا يفسرون التاريخ في ضوء ما أملاه عليهم السلاطين وبذلوا لهم الأموال فيه.
فهم يعتقدون أن محمداً كان يحب قريشاً ويفضلها على سائر القبائل، وأن قريشاً كانت قبيلة صالحة قد أكتملت فيها جميع خصال الشرف والفضيلة، ولم يكن يعيبها في أيام الجاهلية سوى عبادة الأوثان، وقد أرسل الله محمداً لتخليصها من هذا العيب، ولتسويدها على الناس.
هذه هي عقيدتهم في النبي، وهم يأتون بأحاديث كثيرة لتأييدها. أما أنا فأعتقد بأن #النبي كان أسمى من هذا ، فهو لم يأت برسالته الكبرى من أجل تسويد قوم على قوم أو قبيلة على أخرى، إنما كان ثائراً إجتماعياً، حيث إنتقد عيوب قومه قبل أن ينتقد عيوب غيرهم.
وهذا هو شأن كل نبي مصلح. ولذا إشتد الخصام بينه وبين قريش، وكانت المعركة بينهما حياة أو موتاً.
كان #محمد في نسبه قرشيا، وكان خيار أصحابه من قريش أيضاً. ولكن نسبهم لم يمنعهم من انتقاد قومهم والخروج عليهم.
وتلك صفة لا توجد إلا في بعض الأفذاذ من الناس وهم الذين يطلق عليهم في علم الاجتماع أصحاب الشخصية الحدية. فالشخصية الحدية بهذا الاعتبار هي التي تسمو بصاحبها على الحدود الاجتماعية وتبعده عن التعصب لقومه أو غض النظر عن عيوبهم.
نحمد الله أننا نعيش في عصر جديد، حيث نزلت الدولة من عليائها وأزيح عنها ستار "الحق الإلهي" المقدس، وأصبحنا ننظر إلى الحكام كما ننظر إلى الخدام الذين يستأجرهم الناس في رعاية شؤونهم.
دخلت ذات مرة دائرة من دوائر الحكومة فرأيت أعرابياً حافياً رث الثياب يهدد الموظف ويتوعده ويفرض عليه أمره كما يفرض أي سيد من سادة القرون الماضية أمراً على عبيده. فشعرت أني أعيش في عصر جديد.
وقد قارنت هذا بما مر علي في مطلع شبابي حين كنت أدخل الدائرة الحكومية وأنا أتعثر بأذيالي خشية أن يأمر الموظف بحبسي وهو السيد المطاع.
خلاصة الأمر أن السلاطين استطاعوا أن يمسخوا جميع المبادىء الإجتماعية التي جاء بها #الإسلام وضحى الشهداء أرواحهم في سبيلها، فحولوها عن طبيعتها الأولى وجعلوها ركيزة من ركائز نظامهم الغاشم.
وهذا كان من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام في عهوده المتأخرة مطبوعاً بطابع الخنوع والجمود الفكري الإجتماعي، فلا نور فيه ولا نار!
صار المسلمون لا يفهمون من الدين سوى القيام بالطقوس الشكلية،ثم يرفعون أيديهم بالدعاء:"اللهم انصر الدين والدولة". أمسى الدين والدولة في نظرهم شيئا واحدا. فالمعارض للدولة هو عدو الدين،والمصلح الديني هو معارض للدولة. ولم يبق لسلطان المسلمين إلا أن يقول ما قال فرعون:"أنا ربكم الأعلى!"
يحتفل #الشيعة في أيامنا هذه بمقتل #الحسين إحتفالاً ضخماً. فهم يذرفون فيه الدمع الغزير، ويلطمون الصدور والظهور، ويجرحون الرؤوس. ولنا أن نقول أن إحتفال الشيعة هذا أمسى "طقوسياً" ليس فيه من روحه الثورية الأولى شيئاً.
يبكي أحدهم على #الحسين في مجلس التعزية ثم لا يبالي بعد ذلك أن يسير في الناس سيرة يزيد.
وإني لأنظر أحياناً إلى بعض المتزعمين الذين يتصدرون المواكب أو يقيمون الولائم باسم الحسين، فأراهم لا يختلفون في أخلاقهم عن بني أمية ولست أستبعد من أحدهم أن يقتل #الحسين حين يأمره يزيد أو يغمز له معاوية. إنهم يبكون على الحسين في شهر محرم ثم يقتلونه في الأشهر الأخرى.