اِلتجاءُ جَمالي

أ.محمد الحميدي

(1)
اعتاد الجاهليون على الاحتفال بالشاعر الصاعد وتنصيبه أميرا على عرش الكلام البليغ وإفراد المساحات الواسعة له داخل المجالس والمنتديات وأمام رؤساء القبائل والملوك
فما الذي دفع هؤلاء الجاهليين إلى الاعتناء والاحتفاء بالشعر إلى هذه الدرجة؟
(2)

نموذج الشاعر الجاهلي ينطبق وإن بدرجات متفاوتة على واقعنا الثقافي حيث الغلبة للإبداع والكتابات الجمالية والاهتمام بأصحابها ورعايتهم وعمل المسابقات والجوائز وتكريم المتفوقين من المبدعين، فالعقلية الجاهلية ونسقها استمرَّا إلى زماننا الحالي وإن بدا ذلك بصورة لا واعية.
(3)

ما معنى الاحتفاء بالجمال؟
ولماذا كل هذه الرعاية للإبداع؟
وأي دلالات تحملها؟
وأين نشاهد نتائجها؟

أسئلة مركزية ولا شك وهي تغوص بعيدا إلى عمق ثقافتنا الممتدة منذ الجاهلية ولا يمكن الفصل بين المراحل مهما اختلفت الدول وقامت أو سقطت فالإبداع سيرورة حضارية مستمرة ونامية.
(4)

لو رجعنا للعصر العباسي في نهاياته ووجدنا هجوم هولاكو على بغداد وقتل وتشريد أهلها واصطباغ دجلة بالأحمر من كثرة سفك الدماء لأدركنا أننا أمام لحظة فاصلة في تاريخنا الثقافي.
كان يمكن لهذه اللحظة أن تقتل الروح الإبداعية بداخل الإنسان العربي إذا ما استسلم لها.
العكس هو الذي حدث.
(5)

بعد سقوط بغداد أخذ الشعراء بالنياحة عليها وعلى الخلافة الإسلامية وانطلقوا في نياحتهم نحو تذكر ماضيها المشرق واحتضانها لجميع الأجناس والأعراق، والأهم من ذلك أنها كانت قبلة المبدعين من الكتاب والشعراء، فمع هذا الألم العظيم بالفقد جاء الحنين بعودتها ذات يوم إلى سابق عهدها.
(6)

الملاحظة التي يمكن رؤيتها هنا هي في احتفاء الأقطار الأخرى كمصر والشام والحجاز والمغرب العربي والأندلس بهؤلاء الشعراء واستقبالهم والاستماع لقصائدهم في المدينة المنكوبة، وهذا الاحتفاء وإن حضر بدرجات متفاوتة إلا أنه مؤشر جيد على صدق ما نذهب إليه.
(7)

أما لماذا كل هذه الرعاية للإبداع واحتضان المبدعين فهي تأتي من باب الاهتمام بالشأن الثقافي وإدراك: المبدع هو صورة الدولة أو المدينة أو المنطقة التي يسكنها.
فامرؤ القيس مثل صورة الحياة البدوية الجاهلية والمتنبي مثل صورة الدولة العباسية وعلى هذا الأساس يمكن قياس الشعراء والكتاب
(8)

أكبر فائدة تحصل عليها المدينة المستضيفة للإبداع والمبدعين تتمثل في خلودها وارتفاع اسمها وأسهمها بين بقية المدن والبلدان، حيث تتشكل في أذهان الجماهير صورتها الحسنة وأنها متطورة وراقية وتسير بخطى واثقة نحو الأمام، فالإبداع مرحلة تالية للعمران والسكن.
(9)

حين نبحث حول الدلالات التي يمثلها الاهتمام بالمبدع والإبداع فإننا نقف أمام وجهين متناقضين
إذ لو عدنا إلى المأساة التي حلت ببغداد لوجدنا آثارها المدمرة متجاورة مع اهتمام البلدان التي حولها بالمبدعين وهذا ما يزيد السؤال اشتعالا
فكيف يُحتفى بسقوط دولة ومدينة وهلاك ملايين البشر!
(10)

أمام الفرح والبهجة ثمة وجهة مظلم وقاتم لا يمكن رؤيته بسهولة فالخراب والدمار الكبير في العالم وفي داخل بني الإنسان يقابله على الضفة الثانية فرح وبهجة وسعادة وجمال وهي الأشياء التي يقدمها المبدعون

الإبداع يحتفي بالخراب ويستعيده ليس لذاته، إنما لصناعة عالم خال منه ومتجاوز له.
(11)

النتائج والآثار من السهل مشاهدتها في أعمال المبدعين، فالشكاية من ظلم ذوي القربى - طرفة بن العبد - لا تعني الاعتناء والإعلاء من هذا الفعل وإنما لتحطيمه وتدميره وإقامة عالم جميل على أنقاضه

هذا الفعل؛ بما هو فعل بناء، لا فعل هدم؛ هو ما سعى إليه المبدعون وتغلغل بداخل كتاباتهم
(12)

يُشار إلى أن الإبداع لا يأتي على وتيرة واحدة فهناك الشعر والقصة والمسرحية وهناك أيضا النحت والرسم والتصوير وهناك الترميم والنقوش.
جميعها والكثير غيرها تندرج ضمن الإبداع، ويتم رعايتها والاهتمام بها، ومنح الجوائز والأوسمة لممارسيها والمتفوقين فيها.

• • •

Missing some Tweet in this thread? You can try to force a refresh
 

Keep Current with محمد الحميدي

محمد الحميدي Profile picture

Stay in touch and get notified when new unrolls are available from this author!

Read all threads

This Thread may be Removed Anytime!

PDF

Twitter may remove this content at anytime! Save it as PDF for later use!

Try unrolling a thread yourself!

how to unroll video
  1. Follow @ThreadReaderApp to mention us!

  2. From a Twitter thread mention us with a keyword "unroll"
@threadreaderapp unroll

Practice here first or read more on our help page!

More from @mo992001

12 Jan
يقول الناقد ابن طبا طبا :

"ويحتاج من سلك هذا السبيل (أي السرقات الشعرية) إلى إلطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها وتلبيسها حتى تخفي على نقادها والبصرِ عملَها وينفرد بشهرتها كان على غيره مسبوق إليها فيستعمل المعاني المأخوذة من غير الجنس الذي تناولها منه"
ويعلق الناقد إحسان عباس على عبارة ابن طبا طبا بقوله:

" إن من يُعلّم الشاعر كيف يصنع قصيدته بيتا بيتا بل كلمة كلمة لا بد له من أن يعلّمه طريقة السرقة لا ينال فيها حد السرقة"
يقول ابن طبا طبا في السرقات الشعرية مصرحا برأيه:

"وإذا تناول الشاعر المعاني التي سِيق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يُعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه"
Read 5 tweets

Did Thread Reader help you today?

Support us! We are indie developers!


This site is made by just two indie developers on a laptop doing marketing, support and development! Read more about the story.

Become a Premium Member ($3/month or $30/year) and get exclusive features!

Become Premium

Too expensive? Make a small donation by buying us coffee ($5) or help with server cost ($10)

Donate via Paypal Become our Patreon

Thank you for your support!

Follow Us on Twitter!