My Authors
Read all threads
عندما تُذكر المدرسة التعبيرية أستحضر مباشرة كيتي كولڤتز Käthe Kollwitz ، تلك الفنانة الألمانية الشجاعة التي شجبت الحرب في عزّ صعود هتلر وسخّرت فنها كي تتحدث عن الفقر والعَوَز والجوع والأرامل والأيتام والموت بطريقةٍ لا أظن الرسم سيبتكر أفصح ولا أوقع منها في النفس.
جاءت التعبيرية متمردةً على المذهب الانطباعي، ثائرةً عليه، فبدل التركيز على السطح والجو وما يحيط بالأشياء، لا بدّ من إعطاء الذات والعواطف منفذًا كي تظهر على اللوحة. وهكذا وُلد فن إدفارد مونك وصرخته الشهيرة، وخرجت أفلام من نمط كابينة الدكتور كاليجاري، ونوسفيراتو، وميتروبوليس.
على كثرة الأعمال التعبيرية، لا أجد بينها ما يداني لوحات كولفتز بالأبيض والأسود، تلك التي استعانت من أجل طباعتها بتقنيات تشمل الحفر بالأحماض Etching، والطباعة الحجرية Lithography، والحفر الخشبي Woodcuts، فإذا بأراملها وأيتامها وجوعاها وبائسيها ينبعثون على الصفحة محدّقين فينا.
ركّزت كولفتز في بدايتها على الطبقة العاملة المسحوقة. كان أستوديوها يقع إزاء عيادة زوجها المخصصة للمُعوِزين، في واحد من أفقر أحياء برلين، لذا كانت تعرفهم جيدًا. شرحت في إحدى رسائلها: لم أختر الطبقة المُعدمة استجابةً لباعث أيديولوجي، وإنما لأني أجدها أغنى جماليًا وأجدى إسطيقيًا.
غير أنها لم تقع على أسلوبها الخاص إلا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، عندما ألحّ ابناها هانز وبيتر كي تقنع والديهما بانخراطهما في الجيش. كانت المشاعر الوطنية في أوجها آنذاك، ورغم خوفها الأمومي انصاعت لهما، وذهبا للحرب، ليسقط الصغير بيتر في أول معاركها. لم تسامح نفسها أبدًا.
كتبت في مجلتها الخاصة: هناك جروح لا يمكن أن تندمل، أحرى بها أن تبقى مفتوحة. ظل إحساس الذنب يطاردها حتى آخر أيامها. عندما أطالعُ النُصبَ الذي أقامته فوق قبر ابنها أُصاب بقشعريرة. تنحني هي مكسورة حزينة، بينما يرتجف زوجها كالبردان، وآهٍ من قشعريرة الفقد، كم يتضاءل برد الشتاء أمامها!
فتّشت كولفتز في أعماقها وبين أدواتها عن طريقةٍ تترجم أحزانها وتحوّلها إلى فن. وجدت أخيرًا في الحفر الخشبي ضالتها. تخلّت عن كل ما تعلّمته من أساتذتها من تقنيات بحيث لم يتبقَ في الصفحة سوى الأساسي والجوهري. أنتجت سبع رسومات تحذّر من الحرب بعنوان Krieg 1923 ، ويا لها من رسومات!
التضحية - المتطوعون - الوالدان - الأرملة ١ - الأرملة ٢ - الأمهات - الناس. تكاد هذه الرسوم تلخّص قصة كولفتز وجيلها مع الحرب: أمٌ عارية تُسلِم جنينها إلى الحرب قبل أن يُلفَّ بالقِماط. متطوعون يزحفون بسذاجة خلف طبل الموت، أحدهم يحمل سحنة ابنها بيتر، والبقيّة أصدقاؤه.
والدان مكلومان يبكيانِ متعانقين. أرملةٌ تريد أن تضمّ زوجها الغائب لكنّ كفّيها لا تنطويان إلا على الفراغ (تتكرر ثيمة الأكفّ الضخمة العاجزة في لوحات كولفتز، تحاول الأكف أن تدرأ الخطر عن الأهل والأحباب والأطفال دون جدوى، تحاول أن تعطي نفسها حنانًا لكنها تظلّ قاصرة).
أرملةٌ أخرى تستلقي غريقةً -هي وجنينها- على الأرض، عيناها مغمضتان، طفلها فوق صدرها، وعلى وجهها ابتسامةٌ بلهاء (أدركت كولفيتز من بين الرسامين جميعًا أنّ ويلات الحرب الحقيقية لا تنصبّ على أولئك الذين يموتون تحت القصف، وإنما من يتركون وراءهم.)
برجٌ من الأمهات، وأكفٌ عاجزةٌ متشابكة، تدرأ الخطر عن الصغار لكن عبثًا تحاول. (هناك تمثالٌ مطابقٌ ضخم نحتته كولفتز، يحتاج المرء أن يدور حوله كي يدرك كامل عظمته). وأخيرًا: أمٌ تقفٌ وحيدةً في حزنها ومعها طفلها، فرغم اشتراك الناس في المصيبة إلا أنّ كلَّ واحدٍ منهم وحيدٌ في حزنه.
شاعت سلسلة الحرب هذه، وذاع اسم كولفتز في الأوساط الفنية. حين انقضت الحرب طُلب منها تصميم بوسترات تشنّع على الحرب ففعلت: لا حرب بعد الآن! أطفال ألمانيا يتضورون! خبز! لكم أن تتخيلوا انزعاج هتلر بعد تقلّده منصب الفوهرر. أمر بطرد كولفيتز من الأكاديمية، وأُقفلت عيادة زوجها.
عانت كولفيتز في أواخر حياتها. ضُيّق عليها ومُنعت من بيع اللوحات. حُرِمت الانخراط في السياسة أو التحدث عن الحرب. انصرفت في هذا الطور إلى رسم بورترهات شخصيّة فأفاضت جدًا. يمكن لقدرٍ لا يُستهان به من المعرفة أن ينتج حين يتأمل المرء تجاعيد وجهه في المرآة، أو يرسمها في لوحة.
هناك سلسلة اسكتشات رسمتها كولفتز قبل طردها من الأكاديمية بعنوان: موت Tod 1930. سلسلة رائعة، تكاد تكون استئنافًا لرسالتها، فلطالما كان الموت والحرب صنوان عندها. تصوّر الاسكتشات الموت وهو يعيث في الأرض فسادًا، فينزع الأم من طفلها، والطفل من أقرانه، والحسناء من عشيقها.
لكن من بين تلك الاسكتشات هناك اثنان أحبهما جدًا. الأول بعنوان "الموت صديقًا" يصوّر رجلًا يتطلع بتضرعٍ إلى الموت وكأنه يسأله أخذه، أما الثاني فيصوّر عجوزًا -تشبه كولفتز تمامًا- وقد ربّت الموت على كتفها مستدعيًا إياها. يبدو أنها تصالحت مع الموت أخيرًا!
Missing some Tweet in this thread? You can try to force a refresh.

Enjoying this thread?

Keep Current with عدي الحربش

Profile picture

Stay in touch and get notified when new unrolls are available from this author!

Read all threads

This Thread may be Removed Anytime!

Twitter may remove this content at anytime, convert it as a PDF, save and print for later use!

Try unrolling a thread yourself!

how to unroll video

1) Follow Thread Reader App on Twitter so you can easily mention us!

2) Go to a Twitter thread (series of Tweets by the same owner) and mention us with a keyword "unroll" @threadreaderapp unroll

You can practice here first or read more on our help page!

Follow Us on Twitter!

Did Thread Reader help you today?

Support us! We are indie developers!


This site is made by just three indie developers on a laptop doing marketing, support and development! Read more about the story.

Become a Premium Member ($3.00/month or $30.00/year) and get exclusive features!

Become Premium

Too expensive? Make a small donation by buying us coffee ($5) or help with server cost ($10)

Donate via Paypal Become our Patreon

Thank you for your support!